عمار تقي

عاماً بعد عام تتجدد ذكرى عاشوراء، ذكرى انتصار الدم على السيف، ذكرى انتصار العزة والكرامة على الظلم والغطرسة، الذكرى التي اتخذت من الشهادة والدم رمزاً للحرية والإباء.
عقود مرت على تلك الفاجعة الأليمة عندما سالت الدماء الطاهرة من سبط خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) على أرض كربلاء وما شهدته تلك الفجيعة المأسوية من قتل وسبي وتعذيب على أهل بيت النبوة، لتسجل ملحمة عاشوراء بذلك رسالة خالدة إلى قيام الساعة. فقد جسدت لنا ملحمة عاشوراء أروع نهج للبشرية على مر التاريخ والعصور، عندما جمعت أسمى وأنقى وأروع المآثر الإنسانية في الجود والإيثار والتضحية والشجاعة والعطاء، بعد أن خلدت انتصار إرادة الخير والحق على إرادة الباطل والشر حين كانت مصداقاً لرفض الهيمنة والتسلط والاستكبار والاستعباد والاستبداد من قبل القوى المهيمنة والمسيطرة على زمام الأمور العسكرية والاقتصادية والسياسية يوم ذاك!
اليوم نرى كيف أن التاريخ يعيد نفسه، وكيف أن عاشوراء تتجدد عاماً بعد عام، لكن مع اختلاف الزمان والمكان والشخصيات! اليوم نرى كيف أن قوى الاستكبار في العالم باتت تمتلك بيدها القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، وأنها باتت تسيطر بشكل مباشر على مقدرات الشعوب المستضعفة والمغلوب على أمرها. اليوم نشاهد كيف تسعى هذه القوى بغطرستها واستكبارها وبأسلوب الترهيب والإكراه والاستبداد والاستعباد إلى تركيع وإخضاع وإذلال كل من يقف أمام جبروتها المتنامي، إلا أن مدرسة عاشوراء كانت ومازالت السد المنيع أمام تنامي قوة هذا الجبروت!
فبالأمس القريب كنا في رحاب المقاومة الإسلامية في لبنان الصمود التي جعلت من عاشوراء الحسين (عليه السلام) نهجاً وعطاء تنهل من فيضه المبارك، والتي رفعت شعار laquo;انتصار الدم على السيفraquo; لتجعله الأساس الذي تنطلق منه، إذ إن منطق التاريخ، الذي أرست معالمه ملحمة عاشوراء، يقول إن الاحتلال لا يواجه إلا بمنطق المقاومة وهو ما حصل في حرب يوليو 2006 عندما استطاع أبطال المقاومة الإسلامية في لبنان الوقوف والصمود في وجه الكيان الصهيوني بكل جبروته وقوته وغطرسته العسكرية والنووية والاقتصادية، إلا أنه استطاع من خلال استلهام روح عاشوراء وتقديمه الدماء الزاكيات من شهدائه الأبرار أن يلحق بالكيان الصهيوني أكبر هزيمة في تاريخه! أما اليوم، فتطل علينا ذكرى عاشوراء من قطاع غزة حيث تتواصل حرب الإبادة الصهيونية ضد أهلها العزل! اليوم نجد الكثير من أوجه الشبه بين ما حصل قبل أربعة عشر قرناً من الزمان على أرض كربلاء وبين ما يجري اليوم على أرض فلسطين. في كربلاء، ابتدأت السلطة الجائرة المعركة من حصار الإمام الحسين وأهل بيت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) واليوم نجد كيف أن التاريخ يعيد نفسه عبر الحصار الجائر على أهل غزة. في كربلاء منع الطغاة الماء عن الإمام الحسين وأهل بيت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، واليوم تقوم إسرائيل بالفعل نفسه بمنع الماء عن أهل غزة. في كربلاء استشهد الشيخ والشاب والصبي والطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد، واليوم نشاهد إسرائيل وهي تقتل الشيخ والشاب والصبي والطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد! في كربلاء حرقت خيام الإمام الحسين وأهل بيت الرسول الأكرم واليوم تقوم إسرائيل بحرق غزة! في كربلاء وقف الإمام الحسين ونفر من أهل بيته وصحبه أمام جيش جرار مدجج بالسلاح والعتاد، وغزة اليوم تقف أمام جيش جرار مدجج بالسلاح والعتاد. في كربلاء سبيت نساء آل البيت، وفي غزة اليوم تهدم البيوت على رؤوس النساء!
لكننا ورغم المشاهد المأسوية في غزة، إلا أننا بدأنا نستنشق رائحة الصمود الفواحة من الدماء الزاكيات، والتي تذكرنا بملحمة عاشوراء الخالدة. نعم إنها الدماء الزاكيات التي ستنتصر بإذن الله على السلاح في غزة، كما انتصرت الدماء الزاكيات على السيوف في كربلاء.
وستبقى عاشوراء مدرسة نستلهم منها ومن فيوضاتها المعاني الإنسانية النبيلة كلها، وأسمى مصداق لتلك المعاني النبيلة ما هو مرتبط بالكرامة الإنسانية. فقد علمتنا هذه المدرسة العظيمة أن الإنسان أو المجتمع الذي تمتهن كرامته ليس جديراً بالاحترام ولا بالعيش الكريم! بل يجب عليه العمل الحثيث لصيانة كرامته المهدورة والذود عنها، وإن تطلب ذلك الدفاع بالنفس في سبيل صون هذه الكرامة كما قال الإمام الحسين (عليه السلام) مخاطباً أعداءه: laquo;والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر منكم فرار العبيدraquo;.
اليوم جئنا، ونحن نقف أمام مدرسة عاشوراء، أمام مكمن الثروات الروحية والعرفانية والإنسانية، لنجدد لها الولاء والبيعة بعد أن باتت مشعلاً ينير درب الأحرار، ينتصرون به على الظلم والطغيان والقهر والاستبداد. فقد برهن الإمام الحسين (عليه السلام) للعالم أجمع أن الدم باستطاعته أن ينتصر على جبروت السيف، وأن عاشوراء التي بذل فيها الحسين (عليه السلام) الغالي والنفيس، ستبقى صرخة مدوية في ضمير الإنسانية ومناراً للروح، رغم أنف الطغاة والمستكبرين، وأن شعار laquo;هيهات منا الذلةraquo; الذي رفعه الإمام الحسين (عليه السلام) أمام طاغوت عصره سيبقى الشعار الذي ترفعه الشعوب الحية والحرة أمام طواغيت عصورها، كما هو الحال اليوم في غزة التي يأبى أهلها الذلة.