لا رهانات على التغيير
زهير الدجيلي
قد تكون إقالة رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني اقرب مثال للحديث عن تفكك الائتلافات الطائفية في العراق، والانتقال الى مرحلة سياسية جديدة من تحالفات حزبية وسياسية متنوعة في العراق فرضتها إخفاقات العملية السياسية العراقية طيلة خمس سنوات مضت. فالمشهداني الذي كان قد جاء عن طريق جبهة التوافق السنية، أقيل بموافقة مريحة حتى من داخل القائمة نفسها. وقبل استقالته اشترط أن لا يخلفه احد من الحزب الإسلامي، الذي يعد احد أركان القائمة، وهذه إحدى المفارقات السياسية.
ثمة مثال ضعيف، قد لا يكفي لإلقاء الضوء على التفكك الحاصل داخل التحالفين ــ السني والشيعي ــ اللذين تشكلا في بداية احتلال العراق لتقاسم السلطة مع الائتلاف الكردي الذي هو أيضا يواجه انقسامات. وهذا التفكك اخذ مساره مبكرا قبل الانتخابات التي ستجري في نهاية هذا الشهر في المحافظات العراقية، لينجلي بعدها عن تحالفات ومكونات جديدة قد تؤدي بالنتيجة الى تقليص سلطة القرار الطائفي في البلاد وليس إلغاؤها نهائيا. فهذا الأمر يتطلب مقومات عديدة.
لقد تمزقت الخريطة الطائفية التي احتوت العراق بين تلافيفها خلال السنوات الخمس الماضية، وأصبحت رسما آخر لتحالفات واصطفافات جديدة جعلت من الأحزاب الدينية، التي كانت تضع نفسها في إطار الطائفية، تحاول الظهور في إطار laquo;الوطنية العامةraquo; وتسعى بها الى استيعاب ما حصل من انتكاسات ومتغيرات فرضت عليها من الواقع العراقي.
الائتلاف الشيعي
دخل الائتلاف الشيعي (16 حزبا ومجموعة) مجلس الحكم موحدا في عهد سلطة الحاكم الأميركي بول بريمر وفي عهد حكومتي أياد علاوي وإبراهيم الجعفري، فارضا سلطة القرار الطائفي على الحكومة وعلى طريقة بناء الدولة، وخاض الانتخابات الأولى والثانية في المحافظات وفي البرلمان في قائمة واحدة مدعومة من المرجعية الدينية الشيعية. وبناء على هذا الائتلاف القوي الذي تغلب على الخلافات بين أركانه استطاع الفوز بأغلبية برلمانية كانت وراء مجيء الجعفري ومن ثم المالكي، وما تبع ذلك من تقاسم للسلطة مع السنة والأكراد الذين جاءوا بدورهم وفق تحالفين طائفي وقومي.
التناقضات تفرض التغيير
بعد أربعة أعوام من هذه التجربة الائتلافية التي مكنت المؤتلفين الشيعة والسنة من استلام السلطة في الحكومة والبرلمان وفي جميع المحافظات الجنوبية والوسطى، بات الأمر مختلفا الآن وينذر بتغيير كبير، وليس كليا في المعادلة الطائفية التي كانت غالبة خلال تلك السنوات. ماذا حصل؟
- انقسم حزب الدعوة الى عدة أقسام (المالكي ـ الجعفري ـ مازن مكية ـ وقبلهما العنزي وآخرون).
- خرج حزب الفضيلة مبكرا وانسحب وزراؤه من الحكومة وشكل ما يشبه المعارضة في الشارع العراقي ووسائل الإعلام. - انسحب التيار الصدري ليصبح طرفا معارضا للحكومة وللاحتلال. واتسمت معارضته بالمواجهة العسكرية الى درجة انغماس الائتلاف وحكومته بتصفية جناحه العسكري (جيش المهدي).
- أعلن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية نفسه حزبا اسماه حزب المجلس الإسلامي، بعد أن كان ما يشبه جبهة شيعية متحالفة تضم عدة تيارات. وأصبحت منظمة بدر (الجناح العسكري) هي واجهته السياسية والعسكرية. وخرجت منه عناصر اتجهت إلى تشكيل أحزاب أخرى صغيرة تحت مسميات عديدة.
- تباعد المرجعية الممثلة بالمرجع الأعلى السيد علي السيستاني عن الائتلاف الشيعي وسحب ما كان يعرف بالوصاية أو التمثيل السياسي للمرجعية الذي ظهر في الانتخابات الماضية لكن موقف المرجعية الأخير اثبت تباعدا مقترنا بالانتقاد للائتلاف وحكومته .
- أدت السياسة الإيرانية التي تحرك الجماعات الموالية لإيران في العراق من اجل إحباط المشروع الأميركي الى إثارة المزيد من الخلافات داخل التيار الشيعي والائتلاف على وجه الخصوص نتيجة محاباة البعض لإيران ورفض البعض الآخر للسياسة الإيرانية مما ساعد على تفاقم الخلافات.
- تفاقم الخلاف بين حزب الدعوة، بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، والمجلس الأعلى، بزعامة الحكيم حول قضايا كثيرة،منها مجالس الإسناد وما جرى من تبادل اتهامات حول هذه القضية.
- وإذا أضفنا إلى ذلك القضايا الأساسية التي تجعل الخلافات تتفاقم دخل الائتلاف، وتؤدي في اغلب الأحوال الى التفكك والتباعد بين مكوناته (مثل: الفدرالية ـ تعديل الدستور ـ إقليم الوسط والجنوب ـ الموقف من الأكراد) يتضح بأنه كان ائتلافا من اجل الانتخابات فقط ولم يكن قائما على منهج سياسي وعقائدي موحد ومشترك بين أطرافه. هذا أدى بالطبع الى أن يتجه حزب الدعوة الى المشاركة بانتخابات المحافظات بقائمة مختلفة عما مضى وبعيدا عن الإتلاف وعن حزب المجلس الأعلى. وكذلك فعل الآخرون الذين كانوا قبل ثلاث سنوات لا يتحركون إلا ضمن بطانة الائتلاف الطائفي.
جبهة التوافق
خاض الائتلاف السني (جبهة التوافق) الانتخابات الماضية بعد مقاطعة للعملية السياسية دامت سنتين، ودخلها موحدا من أربع مجموعات (الحزب الإسلامي بزعامة طارق الهاشمي، ومؤتمر أهل العراق بزعامة عدنان الدليمي، ومجلس الحوار الوطني بزعامة خلف العليان، وتجمع الحوار الوطني بزعامة صالح المطلق). ووقف وراء هذا التحالف تجمع العشائر السنية حيث كان الجهد منصبا آنذاك لإثبات دور السنة في العملية السياسية.
غير أن ما حصل بعد مرور ثلاث سنوات على هذا laquo;التوافقraquo; أعطى صورة عن أن التفكك الذي أصاب الائتلاف الشيعي ليس أسوأ من التفكك الذي أصاب الائتلاف السني، وفي المحصلة النهائية اثبت مجرى الأحداث أن الرهان على المشروع الطائفي لن يكتب له النجاح حتى لو حصل على قدر من الفوز في الانتخابات المقبلة. فماذا جرى لهذا الائتلاف:
- انشق عن التوافق تكتل العشائر المساند له بدفع وتمويل من سلطات الاحتلال وما ترتب عن ذلك من تشكيل مجالس إسناد التي تكونت منها laquo;كتائب الصحوةraquo;.
- اتجه رؤساء العشائر السنية الى تشكيل تنظيم خاص بهم بزعامة أبو ريشة وزعماء متقاربين معه، فأوجدوا كتلة سنية أخرى سحبت جزءا كبيرا من جمهور التوافق، مما أدى الى توافر عوامل المنافسة والصراع على النفوذ والسلطة.
- انشقاق زعامات كانت ضمن التوافق واتجهت الى تشكيل أحزاب ومجموعات ليبرالية صغيرة.
ــ تفككك جبهة التوافق على خلفية مشاكل كثيرة بلغت ذروتها في إقالة المشهداني، فخرجت كتلة خلف العليان ومن قبلها كتلة صالح المطلق. فيما أصبح الحزب الإسلامي في حالة حرب إعلامية مع جبهة الحوار التي يتزعمها العليان حول المرشح لرئاسة البرلمان.
العامل الرئيسي للمتغيرات
كان العامل الرئيسي لهذه المتغيرات ينطوي على عدة أسباب، في مقدمتها:
- فشل أحزاب الائتلافين ــ الشيعي والسني ــ التي استلمت الحكومات المحلية ومجالس المحافظات في تحقيق شعاراتها التي فازت من اجلها بثقة المواطنين. فبعد تجربة أربع سنوات تكشف للمواطنين عجز هذه الأحزاب عن تحقيق الخدمات الأساسية التي وعدت بها، فضلا عن قضايا الفساد ونهب المال العام التي تكشفت وكان وراءها ممثلو هذه الأحزاب الدينية.
- الصراع والنميمة والكيدية في الإدارات التي يتولاها ممثلو الأحزاب الطائفية أعطت انطباعا بأنه لا يمكن أن يكونوا بما يحملونه من إيديولوجية متخلفة ساسة للمجتمع.
- أدت سيطرة الميليشيات المسلحة للأحزاب الدينية وصراعاتها الداخلية في المدن الى حدوث فظائع أضرت بحياة الناس اليومية وأوقعت ضحايا كثيرين، فضلا عن فرض أنواع من الجبرية الدينية على سلوكيات المواطنين، مما اوجد نفورا كبيرا من الطبقة الدينية الحاكمة والممثلة بالأحزاب التي تتولى إدارة المحافظات.
تراجع وتستر
نتيجة لهذه المتغيرات أدركت الأحزاب الدينية الشيعية والسنية أن بقاءها داخل الجلباب الطائفي لن يجعلها تفوز، أو تحظى بمواقع في العملية السياسية التي تجري فيها انتخابات المحافظات أو الانتخابات البرلمانية المقبلة. لذلك قررت الخروج الى المواطنين بثياب جديدة فيها الكثير من ألوان ليبرالية وأفكار تمت بصلة للعلمانية لمجاراة رغبة المواطنين بالتحول الى قوى أخرى جديدة.
ومما ساعد على ذلك نشوء مكونات سياسية مدنية وعشائرية تزاحم نفوذ هذه الأحزاب، وتراهن على الفوز بثقة الناس من خلال برامج تنتقد بالدرجة الأولى تجربة الماضي الطائفي، وفشل الأحزاب الدينية في المجالس السابقة لتجاري بذلك مشاعر الناس التي باتت تكره كل ما يمت بصلة للتجربة السابقة.
انه مشهد سياسي قد لا يحمل الكثير من التغيير ولا يجعلنا نفرط في التفاؤل، لكنه يضعنا في قناعة بان ما يجري laquo;احتدامraquo; بين قطاعات كبيرة من المواطنين ترغب بإقامة دولة مدنية تفصل الدين عن السياسة، وبين أحزاب دينية استغلت فراغ السلطة وهي تحاول الآن، قدر المستطاع، الحفاظ على مواقعها.













التعليقات