راجح الخوري
المحرقة مستمرة، لا بل تأخذ أبعاداً كارثية، وخصوصا بعد سقوط قرار مجلس الامن 1860 الذي صدر فجر امس داعيا الى وقف فوري لإطلاق النار يفضي الى الانسحاب الاسرائيلي، ثم تأتي البنود الاخرى.
لكن القرار المذكور سقط بالضربتين القاضيتين عندما رفضه الجلاد الصهيوني واندفع في تصعيد العدوان الدموي، كما رفضته quot;حماسquot;. وبالنتيجة، اذا كان البعض قد اعتبر ان القرار المذكور قد شكل موقفا موحدا للعالم، باستثناء اميركا التي امتنعت عن التصويت، فان هذا الاجماع العالمي قد سقط تماما مثل الشهداء المذبوحين في غزة.
واضح تماما ان مليون ونصف مليون فلسطيني من اهلنا الابرياء في غزة عالقون عند الجحيم الناري الذي اطلقه نازيو العصر الجدد. وواضح ايضا وايضا ان المذبحة في غزة لا تهدف الى تقرير مستقبل هذا القطاع النازف منذ عام النكبة في 1948، بل انها يمكن ان تقرر مستقبل الشرق الاوسط ومصيره، ان لجهة الاستمرار في المساعي المبذولة للتسوية السلمية على اساس قيام الدولة الفلسطينية التي تطالب بها السلطة الوطنية في رام الله، او لجهة العودة نصف قرن واكثر الى الوراء والانغماس في الصراع وعلى خطين هذه المرة:
خط المقاومة ضد اسرائيل والاحتلال، وخط quot;الممانعةquot; انطلاقا من العودة بداية الامر الى النظرية القائلة ان طريق فلسطين تمر بالانظمة العربية، وهو ما يشرّع الابواب امام صراعات وانقلابات ومآس قد تستغرق نصف قرن جديد، وهذا يكفي لضياع فلسطين نهائيا، وربما ضياع العرب الواقفين على ابواب انقسامات وربما حروب.
ويا لمرارة السخرية!
كان واضحا ان امتناع اميركا عن التصويت على القرار 1860 جاء نتيجة امرين: اولا اعطاء القتلة في تل ابيب مزيدا من الوقت للمضي في جريمتهم البربرية. وثانيا الحرص على عدم إلزام ادارة الرئيس الاميركي الجديد باراك اوباما بأي موقف قبل 10 ايام من انتقاله الى البيت الابيض.
وكان واضحا ايضا امس ان الوفد العربي، برغم بعض التناقضات المكتومة، تمكن من ان يتوحد في كواليس الامم المتحدة ومجلس الامن، وان يخوض معركة ديبلوماسية ضارية وقاسية ضد اميركا وبعض الدول الاوروبية، وخصوصا فرنسا، وهي معركة ادت في النتيجة الى انتزاع القرار 1860 من انياب المماطلة والتسويف اللذين وصلا الى حد quot;اختفاءquot; رئيس الجلسة وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير اربع ساعات بهدف منع عقد الجلسة بناء لإلحاح نيكولا ساركوزي!!
لقد قاد الامير سعود الفيصل المعركة الديبلوماسية العربية لمدة اربعة ايام كاملة في الامم المتحدة وكواليسها. وكانت قد سبقتها سلسلة من الاتصالات المحمومة على مدار الساعة، قام بها وزير الخارجية السعودي والامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، لوضع الدول الكبرى وتلك المشاركة في مجلس الامن امام مسؤولياتها الاخلاقية والقانونية والانسانية والسياسية حيال المجزرة الوحشية ضد الابرياء في غزة.
وعندما يصل الامر بالامير الفيصل والسيد موسى الى حد التهديد بعقد مؤتمر صحافي لفضح الموقف الفرنسي، فان ذلك يعني ان القتال العربي في مجلس الامن لم ينته بعد رغم ترنح القرار 1860 لا بل سقوطه المزدوج اسرائيليا وحماسيا.
في اي حال لقد كان السخط باديا تماما على وجه وزير خارجية السعودية منذ القى كلمته امام مجلس الامن وخرج لتوه غاضبا. لكن الامر هنا يتجاوز الغضب والسخط حيال الهولوكوست الصهيوني في غزة الى مستوى طرح اسئلة محقة حول صدقية مجلس الامن وأساليبه الملتوية ازاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من الاعتداءات والقتل.
وامام الكارثة الانسانية التي لا يمكن ان ينتج عنها سوى المزيد من التطرف والابتعاد عن هدف السلام، كما يقول الفيصل، لم يعد يكفي quot;الاستغراب والدهشة من الصمت الرهيب ازاء ما يجري في غزة (...) فالامر قد يصل الى ان يدّعي البعض ان هذه العملية ليست اكثر من ممارسة اسرائيل حقها في الدفاع عن النفس، في حين انه في حال النزاع المسلح في جورجيا وجدنا المجتمع الدولي يتحرك بكل سرعة وفاعلية مستنفرا كل ما يستدعيه الامر من طاقات لاحتواء الموقف وايقاف الاقتتال وسحب القوات وما زال نزيف الدم الفلسطيني مستمرا والدمار منتشرا وبطريقة لا يمكن تبريرها باي شكل من الاشكال (...) وخصوصا ان اسرائيل مسؤولة عن التدهور الخطير، فهي التي فرضت الحصار المرير على الشعب الفلسطيني واغلقت المعابرquot;.
واذا كان الفيصل لم يتوان عن وضع علامة استفهام فوق سلوك مجلس الامن والسلم الدولي بازاء ما يجري، فانه وجّه ما يشبه الانذار الصريح الى الشرعية الدولية عندما قال: quot;إما ان يعالج مجلس الامن قضايانا المشروعة بالجدية والمسؤولية، واما اننا سنجد انفسنا مرغمين على ادارة ظهورنا والنظر في اي خيارات تطرح نفسهاquot;.
طبعا لم يسبق لمجلس الامن والامم المتحدة ان سمعا من دولة مثل السعودية حرصت دائما على تغليف ديبلوماسيتها بالمخمل، مثل هذا الكلام الصلب. واذا كانت السعودية لا تتوانى في التلويح بإدارة ظهرها للامم المتحدة بسبب الانحياز الاحمق والاعمى لدى بعض الدول الى مرتكبي المجازر في غزة، فماذا يمكن ان تقول دول اخرى، واي فاعلية او مستقبل للمنظمة والشرعية الدولية الغارقة الآن في دماء اطفال غزة؟!
يغادر جورج بوش البيت الابيض على كف الكارثة. وكي لا يدخل باراك اوباما على كف الكارثة الشرق اوسطية اياها، قد يكون من الملائم جدا ان يستمر الهجوم الديبلوماسي العربي وان ينتقل من نيويورك الى واشنطن.
فماذا لو ذهب سعود الفيصل وعمرو موسى والوفد العربي اليوم الى باراك اوباما ووضعاه باكرا امام مسؤولياته، على الاقل لأن السفاحين في تل ابيب يستعملون السكاكين الاميركية. وربما لان اوباما قادر على استيعاب المعنى المقلق والذي يجب ان يكون مقلقا، لتلويح دولة مثل السعودية بادارة ظهرها الى الشرعية الدولية، وهو ما قد يغرق الشرق الاوسط والعالم ايضا في نمط جديد من التوازنات والمسالك وحتى الصراعات، عندما يصل الاعتدال الى اليأس من الشرعية الدولية!
التعليقات