السيد ولد أباه

وأخيراً خرج الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما عن صمته بعد مرور أسبوع دامٍ من العدوان الإسرائيلي على غزة، قائلًا إن الأوضاع الإنسانية في ساحة الصراع تقلقه، وإن لديه الكثير من الآراء حول المسألة الشرق أوسطية سيعرضها فور استلامه للحكم في 20 يناير الجاري.

وعلى عادة الكتابات السياسية العربية المتسرعة، انقسم محللونا إلى قسمين:استبشر أحدهما بالوجه الجديد الذي هزم الرئيس بوش معتبراً أنه سيكون أقرب للعرب بالنظر لجذوره الأفريقية والمسلمة وانحداره من quot;اليسارquot; وحركة الحقوق المدنية، في حين ذهب القسم الآخر إلى النظر إليه من حيث هو حليف إسرائيل وأكثر رؤساء أميركا تأييداً لها، مما تشهد عليه تصريحاته أيام حملته الانتخابية ووقوف اللوبي اليهودي معه وتعيينه لبعض زعامات هذا اللوبي في مراكز القرار الأساسية.

ماذا لو كانت الحقيقة أكثر تعقيداً وغموضاً؟ فالرجل الذي سيدخل بعد أيام قليلة البيت الأبيض لم يبرز بجلاء رؤيته للسياسة الشرق أوسطية، إلا في تصريحات مقتضبة ومقالات ظرفية،كما أن تجربته في الشأن الدولي محدودة للغاية. وبالرجوع للوثيقة التي أصدرها في يوليو الماضي حول رؤيته الاستراتيجية للنظام الدولي، نلاحظ أن معالجته للأوضاع الشرق أوسطية لم تتجاوز التعبير عن جملة أولويات لم يفتأ يكررها خلال حملته الانتخابية، هي: الانسحاب المتدرج من العراق والحوار الحذر مع إيران، والوصول لحل نهائي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في إطار صيغة الدولتين.

وقد ذكرت صحيفة quot;صاندي تايمزquot; أن أوباما قد بلور بالفعل مشروعاً طموحاً لضبط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ذكرت من بين بنودها:دعم المبادرة العربية للسلام وتشجيع انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة عام 1967، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة مع إعطاء إسرائيل حق quot;الفيتوquot; دون عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين قد يكون من المناسب استيعابهم داخل الدولة الفلسطينية المستقلة.وبحسب الصحيفة، حصلت خطة أوباما على قبول وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في الوقت الذي رفضها زعيم quot;اليمينquot; بنيامين نتانياهو.

ومن الصعب الاستناد إلى تركيبة خلية السياسة الخارجية المقربة من أوباما لاستكناه رؤيته الدبلوماسية للمنطقة، إذ تضم وجوها معروفة بولائها لإسرائيل ودعمها الكامل لها، في حين تضم شخصيات أخرى عرفت بانتقادها لخط العلاقات الاستثنائية بين واشنطن وتل أبيب.

صحيح أن وزيرة الخارجية المعينة هيلاري كلينتون تُحسب على التيار الداعم لإسرائيل، وإنْ كان البعض يعتقد أنها ستتبنى خط زوجها الذي عرض على الفلسطينيين في الأشهر الأخيرة من حكمه خطة للحل النهائي اعتبر الرئيس الراحل عرفات أنها تحقق تسعين بالمائة من مطالب الشعب الفلسطيني. كما أن الأمين العام الجديد للبيت الأبيض quot;رام إيمانويلquot; مشهور بولائه المطلق لإسرائيل، فهو ابن مهاجر إسرائيلي إلى الولايات المتحدة كان من أبرز عناصر عصابات الأورجون الإرهابية، وقد تطوع quot;رامquot; نفسه كميكانيكي لمدة أشهر في الجيش الإسرائيلي عام 1993، ولذا نجد أن صحيفةquot;معاريفquot; اعتبرته quot;رجل إسرائيل في البيت الأبيضquot;.

بيد أن في المجموعة المقربة منه أيضاً عناصر أكثر اعتدالًا من بينهم السيناتور quot;الديمقراطيquot; لي هاملتون الذي اشترك مع جيمس بيكر في التقرير المشهور حول العراق ، وزبيجينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس كارتر، وبرنت سكوكفرت مستشار الأمن القومي في عهد الرئيسين فورد وبوش، وكلهم يدعو إلى مراجعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في اتجاه التوازن الإيجابي بين العرب وإسرائيل.

وفي غياب رؤية استراتيجية دقيقة صادرة عن الرئيس أوباما، لا شك أن أهم وثيقة نظرية تصدر عن الإدارة الجديدة هي الدراسة المطولة التي كتبها- في العدد الأخير من مجلة quot;فورين أفيرزquot; الرصينة- اثنان من أقرب السياسيين الأميركيين للرئيس الجديد، وهما في الآن نفسه من أكبر الخبراء في المنطقة، ويتعلق الأمر بنائب وزير الخارجية السابق مارتن إنديك وريتشارد هاس رئيس quot;مجلس السياسة الخارجية الأميركيquot;، وهو أحد أهم مراكز صنع الرأي في الولايات المتحدة.

وتهدف الدراسة المذكورة إلى وضع تصور منسجم ومتكامل للسياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، بمراجعة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش، من منظور كون كل التحديات الكبرى التي تواجهها أميركا في الساحة الدولية تتركز في الدائرة الشرق أوسطية:الإرهاب، والانتشار النووي، والأمن النفطي، مما يجعل من الضروري إدارة الملف الشرق أوسطي لإمكانية إدارة النظام الدولي بكامله.

ودون محاولة تلخيص الوثيقة المهمة، نكتفي بالإشارة إلى خطوطها الرئيسية التي نجملها في العناصر التالية:

-تغيير استراتيجية مواجهة الإرهاب بالتقليل من التدخل العسكري المباشر، واستبداله بدعم القدرات المحلية للحلفاء، واستقطاب الفضاء الإسلامي بالفصل بين الإسلام والتيارات المتطرفة التي تستند اليه.

-تحقيق التوازن بين المصالح الأميركية والقيم الأميركية، بمراجعة نهج تصدير الديمقراطية للمنطقة، الذي نجم عنه تحكم المجموعات الإسلامية المتطرفة، والبحث عن مقاربة متدرجة تركز على غرس القيم الليبرالية، ودعم المجتمع المدني، وتكريس الحريات العامة وحقوق الإنسان وترقية المرأة والشباب.

- الحفاظ على طاقة رخيصة كهدف استراتيجي رئيسي لأسباب اقتصادية بديهية، ولإضعاف خصوم الولايات المتحدة والحد من تأثيرهم الخارجي(إيران، روسيا وفنزويلا).

-رعاية سياسة المصالحة الطائفية في العراق لتثبيت السلم والأمن الداخلي، مع فرض تقاسم عائدات النفط بالتساوي بين المجموعتين السُنية الشيعية.

-إفشال مشروع إيران النووي من خلال سياسة معقدة تجمع بين الانفتاح الحذر والحوار غير المشروط وتشديد الضغط الدولي، مع حماية إسرائيل من مخاطر التهديد الإيراني للحيلولة دون توجيهها ضربة استباقية انفرادية للمنشآت النووية الإيرانية، وعدم استبعاد حل عسكري في حالة الضرورة القصوى. ولأجل نجاح هذه المقاربة، لا بد من استقطاب روسيا بالاعتراف لها بمصالحها الحيوية في فضائها الإقليمي وإعطائها حوافز اقتصادية تشجيعية، واستقطاب البلدان الخليجية العربية، التي تشترك مع الولايات المتحدة في الوعي بالخطر النووي الإيراني.

-عزل سوريا عن إيران وعن المجموعات quot;الإسلامية المتطرفةquot; بتسوية صراعها مع إسرائيل بالانسحاب من الجولان المحتل، ودفع علاقاتها المجمدة مع الولايات المتحدة.

-العمل على وضع حل نهائي في المناطق الفلسطينية عبر محاور أربعة هي: استئناف المفاوضات المتوقفة على أساس مشروع واضح للحل النهائي ينفذ على مراحل بإشراف دولي، مبادلة الوقف الإسرائيلي للاستيطان بمواجهة الطرف الفلسطيني quot;للإرهابquot;، تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية في الضفة الغربية، تشجيع الدور العربي في الحل النهائي على أساس المبادرة العربية للسلام، وإعطائها مضموناً عينياً ملزماً.

وستكون الخطوات الأولى للإدارة الجديدة في التعامل مع عدوان غزة اختباراً حقيقياً لسياسة أوباما الشرق أوسطية.