ياسر الزعاترة

خلال المرحلة الأخيرة لم يعد أسامة بن لادن يتحدث كثيرا عن القضايا الإشكالية التي يخوض فيها تنظيم القاعدة بفروعه المختلفة، تاركا ذلك في الغالب لأيمن الظواهري، وأحيانا قد يتركانها معاً إذا كانت إشكالية بدرجة كبيرة.
والحق أن ذلك هو ما حافظ عمليا على مكانة الرجل (أعني بن لادن) في نفوس قطاع لا بأس به من المسلمين، وإن لم تعد بالمستوى ذاته القديم خلال التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة، الأمر الذي يعود للأخطاء التي ارتكبها التنظيم عموما، لاسيَّما فروع التنظيم، خاصة التي انضمت إليه لاحقا والتي لا تدقق كثيرا في أعمالها من الزاوية الشرعية والسياسية، وهي تجتهد بطريقتها على نحو يخالف في بعض الأحيان رأي الشيخ أو الشيخين (لا معلومات حول ما إذا كان يقيمان معا في ذات المكان أو في مكانين مختلفين)، ونتذكر في هذا السياق خلافهما مع الزرقاوي حول مسألة قتل الشيعة في العراق.
الرسالة الأخيرة التي وجهها أسامة بن لادن إلى الشعب الفرنسي كانت خروجا عن هذا الخط الذي يصعب وصفه بالخط الثابت، وهي للمفارقة المرة الأولى التي يخصُّ بها الرجل فرنسا برسالة محددة، وهو السبب الذي دفع الجهات الفرنسية إلى التوقف طويلا أمام الرسالة إحساسا بما تنطوي عليه من تهديد، خلافا للأميركيين الذين ألفوا مثل هذه الرسائل ولم تعد تعني لهم الكثير بعد عجز القاعدة عن تنفيذ أي عمل داخل أميركا منذ هجمات سبتمبر.
الرسالة خصت ما وقع للخبراء الفرنسيين في النيجر (اختطافهم من قبل تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي)، ثم وضعت جملة من الأسباب التي دفعت نحو هذا العمل وأية أعمال قادمة تستهدف فرنسا، والتي تتلخص في (التدخل في شؤون المسلمين في شمال وغرب إفريقيا ومناصرة وكلاء فرنسا وأخذ ثروات المسلمين بصفقات مشبوهة، ثم استهداف حجاب المسلمات، إلى جانب المشاركة في قتال المسلمين في أفغانستان).
الرسالة كانت موجهة للشعب الفرنسي، وذلك على أمل أن يسهم في الضغط على نظامه السياسي من أجل تغيير مساره في الملفات المذكورة، وهو أمر بالغ الصعوبة في واقع الحال، إذ إن موقف هذه الدول من سائر الملفات المشار إليها لا يتحدد بناءً على رأي الشارع، وإنما بناء على حسابات نظامها السياسي وأجهزتها الأمنية والعسكرية وعموم مسارها الاستراتيجي.
ثمة أسباب عديدة للقلق الفرنسي من الرسالة، لعل أولها أن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي بات عنصر تهديد فعلي للمصالح الفرنسية والغربية في إفريقيا، خاصة المناطق الرخوة مثل النيجر ومالي وموريتانيا، والتي تتميز بضعف القدرات الأمنية والعسكرية، وثانيها أن الرسالة قد تكون بمثابة تحريض للشبان المسلمين في فرنسا على القيام بهجمات ما ضد مصالح فرنسية داخلية، وهو ما بات يندرج في عداد نشاطات الجيل الثالث من القاعدة، والذي تتأثر عناصره بالتنظيم وتستمع إلى توجيهاته وخطاباته من دون أن تكون لها أدنى صلة بقياداته، ونتذكر ها هنا الضابط نضال حسن في أميركا وعمر الفاروق وهمام البلوي، وربما آخرين ممن يجري توريطهم عبر عملاء أمنيين في أميركا وعدد من الدول الأوروبية، وبالطبع عبر إيهامهم بوجود مخططات جهادية ضد المصالح الغربية.
في فرنسا تربة خصبة لأمثال هؤلاء، وتحريض أسامة بن لادن وتبنيه محاربة فرنسا على هذا النحو قد يشكل خطورة كبيرة عليها، وفي أقل تقدير، فهو سيكلفها أموالا طائلة لمواجهة المخاوف الجديدة، تماما كما كلف الدول الأوروبية الأخرى التي انخرطت في حرب بوش في العراق وأفغانستان.
يشار هنا إلى أن الرسالة لم تأت على جانب مهم في السياسة الفرنسية يتمثل في مواقفها في عهد ساركوزي من القضية الفلسطينية، حيث يُظهر الرجل انحيازا غير مسبوق للكيان الصهيوني، تماما كما يُظهر عداءً لقضايا الإسلام والمسلمين. كما يشار إلى أنها تأتي بعد وعود رسمية بالانسحاب من أفغانستان.
في السابق كانت الأحزاب اليسارية في أميركا وأوروبا أكثر انحيازا لدولة الاحتلال الصهيوني، والسبب هو تغلغل اليهود فيها، لكن السنوات الأخيرة شهدت انقلابا في المواقف، إذ بدت الأحزاب اليمينية (خاصة الجمهوري في أميركا والديغولي في فرنسا) هي الأكثر انحيازا للدولة العبرية.
ليس من الصواب بالطبع استهداف المدنيين الفرنسيين في أي مكان ردا على سياسات ساركوزي اليمينية المتغطرسة، لكن شعور أسامة بن لأن بأنه يرد على مثل هذه السياسات هو الذي دفعه إلى تبني تلك العمليات الإشكالية (طلب الفدية لقاء عمليات الخطف يحولها إلى لون من أعمال العصابات)، حيث قال في مقدمة الرسالة: laquo;إن ما وقع من أسر لخبرائكم في النيجر, والذين كانوا في حمى وأمان وكيلكم هناك، هو رد فعل لما تمارسونه من ظلم تجاه أمتنا المسلمة. فكيف يستقيم أن تشاركوا في احتلال بلادنا وتناصروا الأميركيين في قتل أطفالنا ونسائنا ثم تريدون العيش بأمن وسلام؟!raquo;.
يبقى القول إن كلاما من هذا النوع قد يسبب المزيد من الإشكالات للمسلمين في فرنسا أكثر مما ينصرهم، فيما لا يستبعد أن يستفيد منه ساركوزي الذي يعاني من تدهور غير مسبوق في شعبيته.