خيرالله خيرالله

ليس سرا ان النظام في كوريا الشمالية في عملية هروب مستمرة إلى امام. يتبين يوميا ان السلاح النووي لا يطعم المواطن العادي خبزا ولا يبني دولة ولا يوفر حدا أدنى من الأمان للشعب وانما يصلح للابتزاز لا أكثر ولكن لفترة معيّنة. في استطاعة بعض الدول ممارسة الابتزاز وبناء سياستها على الابتزاز. هذا يحصل في غير منطقة من العالم، خصوصا في الشرق الأوسط. ولكن يبقى السؤال دائما إلى متى يمكن ان تستمر سياسة من هذا النوع؟
كان آخر دليل على إفلاس النظام في كوريا الشمالية القذائف التي أطلقت فجأة قبل أيام في اتجاه جزيرة كورية جنوبية. أوقع الهجوم المدفعي الكوري الشمالي أربعة قتلى في صفوف العسكريين والمدنيين في الجزيرة التي تقع على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من خط الهدنة البحري بين الكوريتين ونحو مئة كيلومتر من اليابسة. كان يمكن وصف الهجوم بانه عمل طائش او حادث معزول لولا انه يندرج في سياق سياسة تصعيدية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة كلها وحتى في العالم. فقبل ايام، اصرت السلطات الكورية الشمالية على استقبال عالم أميركي وتنظيم زيارة له إلى موقع جديد تجري فيه عملية تخصيب لليورانيوم. تولى العالم الأميركي نشر الخبر في أنحاء العالم، خصوصا في الولايات المتحدة. كانت الرسالة التي شاءت بيونغياغ توجيهها إلى المجتمع الدولي في غاية الوضوح. انها تريد الحصول على مساعدات من اجل وقف برنامجها النووي والمتاجرة مع دول أخرى بالتكنولوجيا التي تسمح بصنع الصواريخ المتوسطة المدى. قبل اقل من تسعة أشهر، اغرقت كوريا الشمالية بواسطة طوربيد قطعة حربية كورية جنوبية. ادى الهجوم إلى مقتل ستة وأربعين بحارا كانوا على القطعة الحربية.
كان على العالم، من وجهة نظر بيونغيانغ، التقاط الرسائل الدموية التي توجهها كوريا الشمالية في اتجاهات مختلفة، خصوصا إلى كوريا الجنوبية التي لا تزال ترابط فيها وحدات من الجيش الأميركي لم تتخل عن الأسلحة النووية التكتيكية التي كانت في حوزتها الا حديثا. إلى الآن، هناك رفض للتجاوب مع الابتزاز. يرفض المجتمع الدولي، باستثناء الصين طبعا، العودة إلى التفاوض مع كوريا الشمالية في شان مستقبل برنامجها النووي في اطار الشروط التي تصر على فرضها وعلى جعل الأطراف الأخرى المعنية مباشرة بالملف تلتزم بها. بكلام اوضح، يرفض الروس والأميركيون واليابانيون والكوريون الجنوبيون الرضوخ لشروط بيونغيانغ. على العكس من ذلك، انهم يطلبون منها التراجع عن سياسة الابتزاز والاهتمام بمستقبل شعبها بدل التركيز على المحافظة على النظام ولا شيء آخر غير ذلك.
كان ملفتا، اقلّه حتى الآن، ان الرد على الاستفزازات الكورية الشمالية، بما في ذلك إعلانها عن تجارب لإطلاق صواريخ بعيدة المدى تهدد الدول القريبة منها كاليابان مثلا، جرى التعاطي معه بهدوء. حتى بعد حادث اغراق القطعة البحرية الكورية الجنوبية، بقيت سيول ملتزمة ضبط النفس إلى حد كبير رافضة الدخول في لعبة التصعيد. السؤال الآن بكل بساطة كيف التعاطي مع نظام مستعد للذهاب بعيدا في التحرش بجيرانه، خصوصا كوريا الجنوبية التي ترابط فيها قوات أميركية تحمي خط الهدنة القائم بين الكوريتين منذ العام 1953؟
لا شك ان العالم يعرف ان الابتزاز لا يمكن ان يكون سياسة وان النظام في كوريا الشمالية إلى زوال عاجلا ام آجلا. هذا النظام يريد الحصول على مساعدات من المجتمع الدولي رافضا تطوير نفسه باي شكل من الإشكال. من الواضح انه مع انظمة قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة آخر نظام ستاليني على الكرة الأرضية. هذا النظام سيزول بسبب عدم قدرته على اطعام شعبه المقيم في قفص كبير. هناك في كوريا الشمالية من يموت جوعا وهناك من لا يجد ما يأكله غير جذور الأشجار! لكن السؤال الذي يطرح نفسه يوميا بإلحاح يتعلق بالثمن الذي سيدفعه الكوريون الشماليون من الآن إلى حين تحل لحظة السقوط الكبير.
في النهاية، لم يستطع اي نظام في العالم الاستمرار إلى ما لا نهاية متكلا على القوة العسكرية والأجهزة الأمنية في الداخل وعلى ممارسة سياسة الابتزاز مع العالم على الصعيد الخارجي. حتى الاتحاد السوفياتي الذي كان في مرحلة معينة القوة العظمى الثانية في العالم ما لبث ان انهار نظرا إلى انه فشل على الصعيد الاقتصادي. كان الاتحاد السوفياتي نمرا من ورق ليس الاّ بسبب الاقتصاد. هل يمكن ان تظل كوريا الشمالية استثناء؟ الجواب ان الكثير يعتمد على الصين التي لا تزال توفر للنظام في بيونغيانغ حدا ادنى من المساعدات تبقيه على قيد الحياة لا أكثر. ولكن حتى الصين نفسها التي تحمي هذا النظام بطريقة او بأخرى بسبب التوازنات الإقليمية وحاجتها إلى من يدور في فلكها في منطقة تعتبرها مجالا حيويا لها، ستضيق ذرعا في يوم من الأيام بما يفعله الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ ايل. لماذا سيحصل ذلك ؟ الجواب ان كيم جونغ ايل بات رجلا مريضا ولم يجد من يخلفه سوى اصغر أنجاله الذي أصبح بين ليلة وضحاها ضابطا كبيرا متجاوزا كل الرتب العسكرية بسرعة البرق.
ليس معروفا كيف سيتصرف النظام في المستقبل مع وجود شخص لا خبرة له على رأس هرم السلطة. في نهاية المطاف، ان الصين دولة مسؤولة عرفت كيف تتعاطى مع المتغيرات العالمية. الأكيد انها لن تترك نظاما متهورا يهدد السلم الإقليمي والعالمي متى وجدت ان الوقت صار مناسبا لذلك. هناك دائما نهاية لعملية الهروب إلى أمام... والابتزاز لا يمكن ان يكون سياسة!