محمد نور الدين
فاجأت دعوة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني إلى إعطاء الأكراد حق تقرير المصير على اعتبار أنها تنسجم مع المرحلة المقبلة جميع المراقبين بمن فيهم زعماء العراق أجمعين .
لكنها مفاجأة حيث يجب ألا تكون مفاجأة إلا لقصيري النظر في السياسة والتحولات في الخريطة العربية والاسلامية .
فالأكراد كانوا من قبل وفي عهد صدام حسين قد نالوا في العام 1970 حكماً ذاتياً هو الأول والأوسع في بلد عربي، خصوصاً أنه يعتنق فلسفة البعث في الوحدة والعروبة .وكان صدام في ذلك سابقاً على عصره في الاعتراف بالحكم الذاتي لأقلية إثنية في أي بلد عربي .
ومهما كانت ملاحظات الأكراد على تطبيق الحكم الذاتي ووصفه بالكرتوني،وهذا قد يكون صحيحاً على الصعيد السياسي، فإنه كان خطوة مهمة لتجسيد الهوية الثقافية للشعب الكردي هناك، حيث كانت لهم مدارسهم وجامعاتهم ومطبوعاتهم وإذاعاتهم وباللغة الأم وما إلى ذلك .
وعشية الاحتلال الأمريكي للعراق اتفق كل القادة العراقيين في المعارضة، وجميعهم كانوا في مؤتمر الحزب الديموقراطي الكردستاني السبت الماضي عندما أطلق البرزاني دعوته ldquo;المفاجئةrdquo;، اتفقوا على منح شمال العراق الكردي صيغة ldquo;الفيدراليةrdquo; .وبعد الاحتلال ادرج ذلك في الدستور المؤقت ومن بعدها في الدستور الدائم . وخطوة الفيدرالية هي تطور بديهي للحكم الذاتي . ووفقاً لهذه الصيغة وفي غياب سلطة مركزية قوية مارس الأكراد فيدراليتهم برحابة وتوسع لامست حدود الدولة المستقلة ولا سيما لجهة الاكتفاء بقوات البشمركة على أراضيهم وفي الاتفاقيات الدولية ومنها للتنقيب عن النفط .
اليوم عندما يطالب البرزاني بحق تقرير المصير للأكراد فلا يضيف عملياً أي جديد على الواقع القائم . فعندما وافق العراقيون على الصيغة الفدرالية إنما كانوا يمارسون حق تقرير المصير عملياً الذي قضى بوجود فدرالية كردية أقرب لدولة مستقلة منها إلى أي شيء آخر . ربما يكون أكراد العراق يطرحون هذا المطلب لمزيد من المكاسب على صعيد المشاركة في الحكم في بغداد .لكن النظر إلى الدعوة من هذه الزاوية لا يحجب أبداً أن هناك مسيرة ومساراً كرديين في العراق يتجه، مع كل مرحلة، إلى الاستقلال الكامل . والكردي العراقي، مهما كانت تعبيراته المؤقتة أو المرغم عليها، فإنه لن يستبدل شيئاً بالاستقلال إذا سنحت له الفرصة، ولن تعني له المشاركة في حكم بغداد شيئاً أمام أن يرى نفسه حراً في دولة مستقلة تطلع اليها منذ عهود طويلة بل منذ العهد العثماني في أيام السلطان سليم الأول في مطلع القرن السادس عشر الذي كان أول من اعترف بrdquo;استقلال ذاتي تامrdquo; لمنطقة كردستان .
بمقارنة مع جنوب السودان فإن هذا الأخير حرق كل المراحل ويمضي ليعلن استقلاله الكامل عن السودان وليسجل، لجهة السرعة في تحقيق الهدف، هدفاً في مرمى أكراد العراق ولا سيما أن جنوب السودان ليس منسجماً في داخله من حيث تعدد الإثنيات والأديان والمذاهب بالقدر الذي هو عليه، أيضاً نسبياً، شمال العراق .
كل الذين حضروا مؤتمر الحزب الذي يرأسه مسعود البرزاني كانوا موافقين على صيغة الفيدرالية فلماذا يعارضون حق تقرير المصير الذين يعرفون جيداً أنه سيأتي يوماً ما؟ .
نعم لقد وضع مسعود البرزاني الإصبع على الجرح: دول (إن صحّت التسمية) عربية متناحرة مثل أمراء الطوائف في الأندلس . قسم منها رهائن سياسية وعسكرية واقتصادية للدول الاستعمارية وآخرون ينحصر اهتمامهم بكيفية ضمان استمرار الشخص ونسله حاكماً إلى الأبد .
أما كيف نبني دولة حديثة يتساوى فيها المواطنون بمعزل عن عرقهم ودينهم ومذهبهم؟ أما كيف نبني دولة يحترم الواحد فيها الآخر وتحترم كل فئة الأخرى بهويتها وإيمانها؟ أما كيف نبني دولة تسود فيها الحريات والديموقراطية؟ فهذا أمر ينتمي إلى عالم الغيب أو تحضير الأرواح، حتى إذا وقعت الواقعة نرانا نفاجأ ونصاب بالذهول وتفغر أفواهنا كالأرانب .
أما إذا كان من بلد آخر معني جداً بتصريحات مسعود البرزاني فهو تركيا التي تبدو البلد الأكثر تأثراً بسعي أكراد العراق إلى حق تقرير المصير .
ذلك بأن أنقرة بحكوماتها العلمانية أو الإسلامية السابقة (نجم الدين أربكان) أو الإسلامية الحالية التي يمثلها حزب العدالة والتنمية لم تتقدم إلى الأمام أية خطوة عملية لنزع فتيل المشكلة الكردية حيث لا اعتراف بهويتهم ولا بحقوقهم الثقافية والتعلم باللغة الأم ولا أي شيء صغير قد تحقق . والأمر نفسه ينسحب على الهويات المذهبية الأخرى .
وإذا كانت تركيا تريد تفادي الوصول إلى مرحلة حق أكرادها في تقرير المصير،على غرار أكراد العراق، وإذا كانت حكومات حزب العدالة والتنمية تريد الحفاظ على وحدة الأراضي التركية فما عليها إلا الاعتبار من الدرس العراقي وعدم المماطلة والمكابرة والسعي الجدي لإقامة دولة حديثة تعترف لجميع الأقليات العرقية والمذهبية بأن لها حقوقاً طبيعية وليس منّة من أحد . أما خلاف ذلك فلا يمكن أن يفسر إلا أنه طغيان لنزعات عرقية عنصرية مختبئة خلف قناعات تارة علمانية وتارة إسلامية وكلها مكشوفة في هذا العالم العربي والإسلامي البائس .
التعليقات