سليمان الهتلان

الرأي الذي قال به الشيخ قيس المبارك، عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، والذي يجيز قبول دعوة غير المسلمين لحضور أعيادهم، ثم أيده الشيخ عبد الله بن بيه، نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين، له أكثر من دلالة إيجابية.

لنبدأ من حقيقة قائمة ولا يمكننا تجاهلها أو التحايل عليها. نحن نعيش اليوم عصراً تداخلت فيه الثقافات والأفكار، وتقاطعت خلاله المصالح وقصرت المسافات. نحن جزء من هذا العالم متعدد الأديان والأفكار والثقافات والأعراق. هذه حقيقة، نحن جزء منها. ومثلما تضاء أشجار laquo;الكريسماسraquo; في أبوظبي ودبي والبحرين والدوحة وغيرها من مدننا العربية، تقام المآذن الكبرى في عواصم أوروبا ومدن أميركا، ويحتفل البيت الأبيض وعواصم أوروبا سنوياً بدخول شهر رمضان وأعياد المسلمين. ومثلما يوجد مسلمون في الغرب laquo;المسيحيraquo;، يوجد مسيحيون في الشرق. فما المشكلة؟

الحقيقة الثانية أن الديانة المسيحية هي في الأصل جزء من تاريخ هذه المنطقة ومكون رئيس من المكونات الثقافية في العالم العربي، فمسيحيو العراق والشام ولبنان وفلسطين والأردن لم يأتوا من كوكب آخر. هم مثلنا، من أهل الأرض وصلبها، بل لا يمكن أن يُنسى فضل مسيحيي لبنان تحديداً في الحفاظ على اللغة العربية في زمن انحسارها أيام الهيمنة العثمانية على المنطقة.

أما البعد الآخر ــ وهو بالتأكيد إيجابي ومفيد ــ في ما طرحه الشيخ قيس المبارك، فهو أنه أثبت فعلاً جدوى التنوع الفكري والمذهبي في الخطاب الديني الذي يطالب به العشرات من المثقفين في السعودية وخارجها. إلى ما قبل دخول الشيخ المبارك في عضوية هيئة كبار العلماء، كانت الهيئة محتكرة على مدرسة فقهية واحدة ومعتمدة على باب laquo;سد الذرائعraquo; الذي يغلق كل الأبواب والنوافذ أمام الرأي المختلف. ورأي الشيخ قيس المبارك في جواز قبول دعوة غير المسلمين لحضور أعيادهم، هو نموذج واحد لأهمية التنوع في الرأي داخل مؤسسة دينية ما زالت مهمة. فالمبارك ينتمي للمذهب المالكي وهو من أصغر أعضاء هيئة كبار العلماء سناً ــ إن لم يكن بالفعل أصغرهم سناً ــ ورجل يسافر ويقرأ الأحداث بلغة العصر، مما يعطي لآرائه قبولاً لدى جيل الشباب المرتبط أصلاً بالعالم الجديد، عبر تقنيات الاتصال الحديثة ومن خلال الأسفار والتواصل مع العالم. ومن تجربته القصيرة في عضوية هيئة كبار العلماء، تبرز أهمية ضخ دماء جديدة ومختلفة في المؤسسات التي تعنى تحديداً بالمسائل الفقهية والإفتاء.

الإسلام دين من مكامن عظمته هذا الغنى والتنوع في الآراء والأفكار، وفي الفسحة التي يمنحها للتكيف مع تطورات الزمن ومتغيرات الحياة. والانفتاح الواثق على العالم أصبح اليوم ضرورة للبقاء. إننا نؤذي شبابنا ــ ونسيء لديننا وثقافتنا ــ إن لم نعلمهم التسامح مع الأفكار والأديان والثقافات المختلفة. وإننا نزرع فيهم حالة من laquo;الانفصامraquo; في رؤيتهم للآخرين وتعاملهم مع حقائق زمنهم، إن طالبناهم بحمل لواء العداء ضد الآخر.

أيام الدراسة في أميركا عرفت طلاباً من منطقتنا، من دول الخليج تحديداً، حائرين في كيفية التعاطي مع واقعهم laquo;الأميركيraquo; الجديد. لقد جاءوا إلى أميركا وهم مشحونون بالحذر ـ إن لم يكن العداء ـ تجاه المجتمع الجديد. بعضهم كان متفوقاً في دراسته، لكن معرفته بالمجتمع الذي يعيش فيه لا تتجاوز المفاهيم النمطية عن ذلك المجتمع، والتي تقرأها وتسمعها عادة في خطب بعض الوعاظ وأشرطتهم وبرامجهم التلفزيونية. وأذكر أن بعضاً من هؤلاء الوعاظ كان يزور أميركا ويلتقي بالطلاب العرب والمسلمين، محرضاً إياهم ألا يبتسموا في وجه الأميركان laquo;الكفارraquo; وأن يظهروا لهم الغلظة في التعامل! وهكذا رأينا الآلاف من طلابنا العرب يذهبون للدراسة في أميركا بأجسادهم لا بعقولهم، فيعودون منها بأفكار هي ذاتها التي سمعوها أو قرأوها في خطب وعظية ساذجة وجاهلة. كانت الجامعات الأميركية تستجيب بأريحية مع طلبات الطلاب العرب والمسلمين، فتخصص قاعات تستخدم كمساجد وتسمح بتنظيم جمعيات وأندية للطلاب المسلمين، واستمر الحال هذا حتى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولم يأت أحد من الأميركان ليحذر أميركا من أن المسلمين سيؤسلمون أميركا أو أن الأذان سيسكت أجراس الكنائس. هذا لا يلغي أبداً وجود أصوات نشاز ــ كما عندنا ــ تحرض على العداء، وترفض التسامح مع الإسلام والمسلمين. وهذا لا يعني أن الطالب العربي والمسلم في أميركا يعيش دائماً في عالم مثالي يخلو من أمراض العنصرية والمواقف المعادية. لكن الملاحظ أننا في العالم العربي كثيراً ما نبالغ في ردات أفعالنا تجاه ما يقال عنا هناك، أو ضد بعض الخطوات البسيطة في منطقتنا الهادفة إلى التقريب بين الأديان والثقافات. فأن تضاء الأنوار في أبوظبي أو دبي خلال أعياد الميلاد، ليست laquo;نهاية الإسلامraquo; وليست صورة من صور الغزو الثقافي، وإلا لكانت المآذن الشاهقة في أوروبا وأميركا نهاية للمسيحية وغزوا ثقافيا إسلاميا كاسحاً!

نحن اليوم في أمس الحاجة لأصوات عاقلة تقدم العقل على العاطفة، وتخاطب شبابنا بلغة العصر وثقافته، لغة تقدم له بديلا عقلانياً لذلك الخطاب المتشدد الذي يحرض على الكره والعداء والانعزال! من هنا نقف احتراماً وتقديراً لصوتين من أصوات التنوير الإسلامي، الشيخان الفاضلان قيس المبارك وعبد الله بن بَيَّه.