وائل مرزا


ماذا لو اشتعل بركان آيسلندا بالتزامن مع حصول إعصار كاترينا في أميركا وزلزال تشيلي وتسونامي جنوب شرق آسيا، وفي الوقت نفسه الذي كانت تنتشر فيه إنفلونزا الخنازير في العالم؟
لا يوجد أي سبب منطقي يمنع حصول مثل هذه الكوارث وغيرها في وقتٍ واحد، ولو أن هذا التزامن حدث لكان أشبه بسيناريو يوم القيامة للبشرية.
تبعدُ آيسلندا أكثر من 2000 كيلومتر عن أقرب نقطة إليها في أوروبا، والبركان الذي اشتعل واحدٌ فقط من 22 بركاناً حياً فيها، وهذه البراكين جزءٌ صغير من قرابة 600 بركان يعرف العلماء أنها حية ويمكن أن تشتعل في أي وقت على هذه الأرض.
رغم هذا، وخلال يومين من الاشتعال، فقد أغلق رماد البركان حركة الطيران في القارة العجوز بشكلٍ شبه كامل، تم إلغاء أكثر من 100 ألف رحلة جوية، وبقي ملايين المسافرين في أوروبا وبقية أنحاء العالم معلّقين في أماكنهم لا يملكون سوى الانتظار، وذكرت وسائل الأنباء أن خسائر ما جرى تُقدّرُ بمليارات الدولارات.
ومنذ أشهر معدودة، قُتل جرّاء زلزال هايتي أكثر من 230 ألف إنسان وجُرح أكثر من 300 ألف شخص وتشرد أكثر من مليون، كما تم تدمير أكثر من 250 ألف مسكن وأكثر من 30 ألف مبنى تجاري.
وقبل أقل من 5 سنوات، ضرب إعصار كاترينا الشواطئ الجنوبية الشرقية من الولايات المتحدة فمات قرابة 2000 شخص، وكانت الخسائر المادية تتجاوز 150 مليار دولار.
وقبل ذلك بأقل من عام واحد، ضربت أمواج التسونامي العاتية شواطئ إندونيسيا وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، فأسفرت عن مقتل أكثر من 130 ألف إنسان، وفقدان أكثر من 35 ألف، وتشريد أكثر من نصف مليون شخص.
ماذا لو حصلت هذه الكوارث الطبيعية في نفس اليوم؟ وماذا لو رافقها انتشارُ مرض جنون البقر وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير التي أصابت العالم بالرعب خلال السنوات القليلة الماضية؟
ماذا كان لهذا الإنسان الضعيف أن يفعل؟
نفهمُ أن يلجأ أهل السياسة والاقتصاد فوراً إلى الأرقام للقيام بالحسابات، وألا يُلقوا بالاً إلى أية دلالات لمثل هذه الكوارث الهائلة.
لكن ما لا يمكن فهمه هو إعراضُ أهل الثقافة والأدب والفن عن التفكير في تلك الدلالات، وفي البحث عن مغزاها حين يتعلق بما هو كائنٌ أو يجب أن يكون في نظام العالم.
لا نريد أن ندخل في نقاشٍ حول ما يقوله البعض من أن هذه الظواهر عشوائية بحتة، وما هي إلا نتيجة أسباب جيولوجية ومناخية، وما يظنّهُ البعض الآخر بأنها عقابٌ من خالق الناس على فسادهم وإفسادهم. وما يؤمن به آخرون بأنها تمثل الأمرين.
وإنما نتحدث هنا عن دلالةٍ أساسيةٍ واضحةٍ جليةٍ لا يمكن أن يختلف عليها اثنان من الناس أياً كان الاعتقاد والمذهب، ألا وهي الضعف البشري البالغ الذي يتجلّى بشكلٍ مهيب، ومرةً تلو الأخرى، في مثل هذه الأحداث. هذا الضعف الذي لا تنفع معه أقمار صناعية ولا أجهزة استخباراتية ولا أنظمة استشعار، ولا تُفيد فيه آلاف الرؤوس النووية والأسلحة الفتاكة التي يفخر البعض بامتلاكها هنا وهناك، وتصبحُ معه كل أنواع التكنولوجيا الحديثة وعجائبها وأدواتها أشبه بالخردة التي لا تنفع لشيء.
لم ينفع اختراعٌ اخترعه الإنسان حتى الآن في التعامل مع بعض الرماد البركاني الذي قطعَ آلاف الكيلومترات واستقرّ في سماء أوروبا على ارتفاع 30 ألف قدم! أصبح نظام التوجيه العالمي GPS الذي كان مفخرة البشرية وإحدى عجائب التكنولوجيا المعاصرة مجرد لعبة لا تصلح لتوجيه طائرةٍ واحدة، لأنها لا تستطيع أن تحلّق أصلاً في السماء، لم تستطع الأساطيل الجوية الجبارة لحلف الناتو أن تزحزح ذرةً من غبار الرماد البركاني من مكانها. ولم تتمكن الرادارات المتطورة ولا أجهزة الكمبيوتر العملاقة أن تجد ثغرةً يمكن من خلالها إعادةُ مسافرٍ إلى أهله من لندن إلى كوبنهاغن.
وكما رأينا أهل الجنوب في كوارث هايتي وإندونيسيا ينامون على قطعة قماش في زوايا الشوارع والبيوت، رأينا أهل الشمال يفترشون الأرض ليلةً تلو الأخرى على قطعة قماش في زوايا المطارات المهجورة من الموظفين والعمال.
ألا يدعو كلُّ هذا البشريةَ وإنسانَها إلى شيءٍ من التواضع؟
لا نقصد هنا بطبيعة الحال مئات الملايين من المسحوقين من بني البشر ليس فقط في إفريقيا وآسيا، بل وفي كل مكان آخر، وإنما نقصد الإنسان الغربي وتحديداً في أوروبا وأميركا، حيث سادت ثقافةٌ تقول بلسان الحال وبلسان المقال إنها قهرت الطبيعة وتغلّبت على قواها، وحيث يبدو واضحاً أن الغرور البشري بإنجازات الإنسان في مجال العلوم والتقنية أصبح يتضخمُ بسرعة، حتى صار يُلقي ظلالاً سوداوية على الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تتبلور في تلك البلاد، وتؤثر بالضرورة على العالم بأسره ليس فقط سياسياً واقتصادياً، وإنما أيضاً ثقافياً واجتماعياً وفي كل مجالٍ آخر.
مرةً أخرى، لا نتوقع أن تتحرك في الساسة وأرباب الاقتصاد والمال بقيةُ من إنسانية، لأن الشكّ أصبح كبيراً في وجود تلك البقية ابتداءً، لكننا نرجو أن تتحرك المشاعر البشرية لدى شرائح الأدباء والمثقفين والفنانين هناك. فالمفروض أن هؤلاء يمثلون الضمير الإنساني لمجتمعاتهم في نهاية المطاف.
لماذا لا نرى لوحات لكبار الرسامين، ولا نقرأ شعراً أو نقداً لكبار الشعراء والنقاد، ولا نشاهد مسرحيات وأفلاماً لكبار الفنانين، ولا نسمع سيمفونيات لكبار الموسيقيين، وهي تدعو الإنسان في أوروبا وأميركا إلى التواضع؟ بل لماذا لا يدعو قادةُ الرأي في الغرب قادةَ القرار فيه إلى شيءٍ من التواضع؟
هذه فرصةٌ جديدة لكي يمارس هؤلاء بحقّ دورهم النبيل والراقي للحفاظ على البشرية من جنون الجشع والطمع، ومن كل ما ينتج عن الغرور الإنساني من أنظمةٍ سياسية واقتصادية تملأ الأرض ظلماً وجوراً وفساداً، رغم الكمون الهائل من الخير الموجود في الإنسان وإنجازاته المعاصرة.
فهل يغتنم هؤلاء الفرصة أم تضيع كما ضاع غيرها على مرّ السنين؟
يرحم الله أديب العربية المظلوم مصطفى صادق الرافعي حين قال منذ أكثر من ستين عاماً quot;تعتري المصائبُ هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخِسّة والدّناءة، وتكسرَ الشرّ والكبرياء، وتفثأ الحِدّةَ والطّيش. فلا يكون من حُمقهِ إلا أن يزيد بها طيشاً وحدّة، وكبرياءً وشراً، ودناءةً وخِسّة. فهذه هي مصيبةُ الإنسان لا تلك.. المصيبةُ هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبةquot;.