بشير موسى نافع


انتهت الانتخابات البريطانية ببرلمان معلّق، ورغم أن البريطانيين عرفوا تجربة البرلمان المعلق من قبل، كان آخرها انتخابات 1974، إلا أن النتائج هذه المرة جاءت بالغة الغرابة والتعقيد، بحيث لا يمكن قياسها على أية انتخابات سابقة في المئة عام الماضية. البرلمان المعلق، أولاً، هو المجلس النيابي الذي لا يتمتع فيه أي من الأحزاب الرئيسة بأغلبية مطلقة، تتجاوز نصف عدد مقاعد المجلس. ولعل وصف quot;المعلقquot; نفسه يوحي بالقلق. الوصف، الذي أصبح له سلطة اصطلاحية، مستعار من لغة المحاكمات القضائية القائمة على هيئة المحلفين، فإن انقسم مجمع المحلفين وأخفق في الاتفاق على حكم ما، يوصف المجمع عادة بالمعلق. بذلك، يكون البرلمان المعلق انعكاساً لحالة سياسية، يحجم فيها الناخبون عن التعبير عن إرادة حاسمة لصالح أحد الأحزاب المتنافسة.
جاءت نتائج الانتخابات لتؤكد خذلان الناخب البريطاني لرئيس الوزراء ورئيس حزب العمال الحاكم، غوردن براون، ولكن الناخب لم يُعطِ حزب المحافظين المنافس، الذي يرأسه ديفيد كامرون، ما يكفي من الدعم ليستطيع الحكم منفرداً. ولذا، فالأرجح أن تقام الحكومة القادمة على أساس اتفاق على عدد محدود من السياسات بين المحافظين والحزب الثالث، الأصغر، الليبراليين الديمقراطيين، وهذا هو السيناريو المرجح، أو اتفاق بين حزب العمال والديمقراطيين الليبراليين، وهو السيناريو الأقل احتمالاً، ولكنه غير مستبعد. تأسيس الحكومات على مثل هذه التحالفات الحزبية ليس غريباً في التقاليد السياسية الأوروبية، ولكن البريطانيين لم يعتادوا مثل هذه الحكومات، ومن هنا تردد مصطلح quot;الأزمةquot; لوصف الوضع السياسي الناجم عن هذه الانتخابات. قد تمر عدة أيام قبل أن تصل مفاوضات المحافظين والليبراليين الديمقراطيين إلى اتفاق، أو عدمه، ولكن هذه ليست هي القضية، على أية حال، لأن بريطانيا لا يمكن أن تبقى طويلاً بدون حكومة. بريطانيا في النهاية ليست العراق، وغوردن براون ليس نوري المالكي. القضية الأبلغ دلالة وأهمية هي تلك المتعلقة بالجدل السياسي الواسع الذي ولدته هذه الانتخابات غير العادية في نتائجها، لاسيما الجدل حول فعالية النظام الديمقراطي ووسائله وآلياته.
يقسم النظام الانتخابي البريطاني البلاد إلى دوائر انتخابية، يفترض أن تكون متساوية في عدد السكان، وإن كان من الصعب حين رسم حدود الدوائر أن يتحقق التساوي دائماً. وللفوز بمقعد دائرة ما، يكفي المرشح الفائز الحصول على أكبر عدد من أصوات المقترعين، بغض النظر عما إن كان هذا العدد يفوق نصف عدد الأصوات التي أدلى بها أو لا. الحزب الذي يحصل على نصف زائد واحد من مجمل عدد أعضاء البرلمان يشكل الحكومة، ويستطيع طالما حافظ على أكثريته البرلمانية وولاء أعضائه، أن يفرض سلطته الكاملة على توجهات الحكم. المفترض في التقاليد الديمقراطية أن يؤخذ الرأي العام في الاعتبار، حتى بعد الفوز في الانتخابات، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا الطارئة، ولكن ذلك لا يحدث دائماً، بل لا يحدث في أغلب الأحوال، فحكم الأكثرية النيابية هو أقرب إلى الدكتاتورية الانتخابية منه إلى الحكم باستطلاعات الرأي. أبرز الأمثلة البريطانية على ذلك تجلى في قراري الحرب على العراق وفي مواجهة الأزمة الاقتصاديةndash; المالية الطاحنة، التي عصفت بالاقتصاديات الغربية منذ خريف 2008.
تمتعت وزارة العمال بقيادة توني بلير بأكثرية مريحة في برلمان 2002، ولذا، لم يعبأ رئيس الوزراء بالرأي العام البريطاني ومعارضته واسعة النطاق والواضحة للحرب غير المبررة على العراق. حاول بلير بالتأكيد أن يقدم من المسوغات ما يقنع الرأي العام بقرار مشاركة بريطانيا في غزو العراق، ولكن ما أن اتضح أن الأغلبية البريطانية لم تقبل صدقية المسوغات التي قدمها رئيس الحكومة، حتى مارس بلير ضغوطاً هائلة على أعضاء حزبه في البرلمان لدعم قراره، وذهب إلى الحرب على أية حال. في الأزمة الاقتصادية- المالية، لم يستجب رئيس الحكومة براون إلى الدعوات المتصاعدة في حزبه، وفي البلاد ككل، ليعيد موضعة السياسات الحكومية العمالية لخدمة مفاهيم الحزب التقليدية حول العدالة الاجتماعية، واختار بدلاً من ذلك تقديم القسط الأكبر من الدعم الحكومي للمؤسسات البنكية، التي ساهمت إداراتها السيئة أصلاً في تفاقم الأزمة. والأمثلة على استبداد حكومات الأكثرية لا تحصى، بما في ذلك فرض مارغريت تاتشر، ضد معارضة شعبية عارمة وعنيفة أحياناً، نظام الضريبة المحلية على الرؤوس بدلاً من الممتلكات.
لوضع نهاية لمثل هذا النظام الانتخابي ونمط الحكم بالأكثرية الحزبية، ترتفع الأصوات الداعية في بريطانيا اليوم إلى تغيير نظام التصويت إلى الانتخابات النسبية. ثمة أنماط متعددة للانتخابات النسبية، ولكن أبسطها هو النظام الذي يعتبر البلاد كلها دائرة واحدة، على أن يقترع الناخبون لخيارات محددة ضمن القائمة (وهو المعروف بالقائمة المفتوحة، ويعتبر الأقرب لروح الديمقراطية وأكثر عدلاً) أو للقائمة ككل (وهو المعروف بالقائمة المغلقة، ويعتبر أقل عدلاً ويحمل مسحة من الإجبار). والمعروف أن حزب الليبراليين الديمقراطيين، الحزب الثالث بين القوى الحزبية البريطانية الرئيسة، هو المطالب الرئيس والقديم بنظام الانتخابات النسبية. فرغم أن نسبة الأصوات التي تذهب لليبراليين الديمقراطيين تتجاوز عادة %20، فإن توزع أصواته في أنحاء البلاد لا يمنحه أكثر من 8 إلى %10 من مقاعد البرلمان، بدون أن يتمتع بثقل كاف للمشاركة في الحكم أو لعب دور جوهري في المعارضة.
النتائج المعلقة وغير الحاسمة لصالح أي من الحزبين الرئيسين في الانتخابات الأخيرة منحت الليبراليين الديمقراطيين فرصة التأثير على الحكومة القادمة، وضعت مسألة الإصلاح الانتخابي على طاولة التفاوض بين الليبراليين الديمقراطيين والمحافظين والعمال. وربما تتحول هذه المسألة إلى مقياس حاسم في تحديد مصير هذه المفاوضات. يطالب الليبراليون الديمقراطيون وقطاع واسع من الناخبين باستفتاء شعبي على مشروع الإصلاح الانتخابي، ويؤكدون على أن النظام الحالي غير عادل وغير تمثيلي وغير ديمقراطي، وأن الذهاب إلى التمثيل النسبي سيعزز من دور الشعب في تقرير طبيعة ووجهة حكومته، ويفسح المجال أمام الأحزاب الأصغر لتمثل برلمانياً بما يقابل عدد أصواتها، ويضع نهاية لاستبداد الأكثرية الانتخابية. أما معارضو التمثيل النسبي، وهم كثر، ويضمون معظم نواب ونشطاء حزب المحافظين، وبدرجة أقل العمال، فيطرحون عدداً من الاعتراضات لا يمكن التقليل من وجاهتها.
يقول هؤلاء: إن التمثيل النسبي يفتح المجال أمام أغلب الأحزاب الصغيرة بالتواجد في البرلمان، بما في، ربما، أحزاب شريرة، ليست ديمقراطية في حقيقتها، وتسيء أيديولوجياتها إلى النظام الديمقراطي، كالأحزاب العنصرية، مثلاً. وبتوزيع المقاعد البرلمانية على عدد كبير من الأحزاب، تصبح الأحزاب الكبيرة أسيرة لابتزاز الصغيرة، وتقوم حكومات ائتلافية، ضعيفة، لا تتمتع بالقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة عندما تكون شؤون البلاد والحكم في حاجة لمثل هذه القرارات. وما لا يقل أهمية، أن التمثيل النسبي يضع في أغلب الحالات، وإن ليس كلها، نهاية للعلاقة الحميمة والشخصية بين الدائرة الانتخابية وممثلها البرلماني.
في النهاية، ليس من الواضح إن كانت بريطانيا ستخرج من أجواء الانتخابات الأخيرة باتفاق على تغيير نظامها الانتخابي، أو الحفاظ على الوضع القائم. ولكن الجدل البريطاني يكشف، على أية حال، نسبية الطرائق والوسائل الديمقراطية.