ياسر سعيد حارب

كنت في حفل تكريم حفظة القرآن الكريم في مدرسة ابني سعيد، حيث كان هو أحد المكرمين، وبعد الكلمات المطوّلة والخطابات اللا نهائية، عرض مجموعة من الطلبة فقرة تاريخية، استعرضوا فيها بعض الشعراء من التاريخ العربي، بدءاً بالجاهلي، وانتهاءً بالتاريخ المعاصر.

حيث بدأ العرض بطفل يرتدي رقاعاً مشقوقة تكاد تغطّي جسمه، فظننت أولاً أنه من قبائل الماساي الشهيرة التي تسكن كينيا، ثم اكتشفت بعد أن ألقى بيتين من الشعر بأنه عنترة العبسي.

وبعد عدة شعراء، خرج شاعر يرتدي ثوباً أبيض عليه غترة بيضاء دون أن يضع عقالاً على رأسه، وتوشّح بـ laquo;بشتraquo; أسود، وهو الرداء الذي يضعه أهل الخليج في المناسبات الرسمية، ويحمل في يديه عصا من الخيزران، في منظر ذكّرني بلبس علماء الدين في الخليج على وجه العموم، وفي السعودية على وجه الخصوص، ثم أعلن عريف الحفل بأنه حسّان بن ثابت، شاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم.

ذهبت بعد الحفل وبحثت عن زيّ الصحابة وزي النبي، صلى الله عليه وسلم، فوجدت أنهم كانوا يلبسون السراويل، والإزار، والرداء، وعلى الرأس كانوا يلبسون العِمامة، ولم يَرِد أبداً أنهم كانوا يلبسون كما يلبس أهل الخليج اليوم!

عندما يسافر بعض العرب لقضاء العمرة، نراهم يرتدون الغترة على رؤوسهم دون العقال، فأتساءل:، لماذا يعتقد المسلمون، والعرب على وجه الخصوص، بأن وضع الغترة مثل أهل الخليج هو من السنة مثلاً؟

أو لماذا يشعرون بالروحانيات والاندماج في شعائر الإسلام عندما يلبسون هذا الزي؟ ففي مدننا العربية، والخليجية خاصة، تجد أئمة المساجد، على اختلاف جنسياتهم، يضعون الغترة فوق الرأس دون عقال، في تشبّه تام بلبس علماء الدين السعوديين. بحثت قليلاً فوجدت بعض laquo;الفتاوىraquo; التي تشير إلى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جاء فيه:

laquo;يَحْرُم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، وإظهار الترفع، أو إظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلكraquo; ولهذا، اتخذ طلبة العلم قرار ترك العقال حتى لا يشعروا بالترفع على الناس، على الرغم من فتوى بن عثيمين ومحمد بن عبد الوهاب نفسه في جواز لبسه.

ومع مرور الزمن، تحول ترك العقال بهدف التواضع، إلى صفة لبعض من أراد التميّز عن الناس، وكأن حال هؤلاء يقول laquo;أنا طالب علمraquo; أو laquo;أنا متدينraquo;، وتحولت صور هؤلاء عبر التلفاز وفي مجالس الذكر، مع الوقت، إلى الصورة الرسمية للمسلمين في العالم، وصار كل من أراد أن يلقّب بـ laquo;شيخ دينraquo; أن يتسربل بهذا اللبس، في شرق العالم الإسلامي وغربه.

من يقرأ التاريخ، بتجرّد، يجد أن الحركات الأصولية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، قد أسست لتيار فكري واجتماعي جديد، قائم على التشدد في الدين ورفض التنوع الثقافي والفكري في المجتمع الواحد، بحجة محاربة البدع، فنشأت حرب إقليمية تمثّلت في قتل المسلم أخيه المسلم بحجة أنه كافر مبتدع.

وعلى الرغم من انتهاء تلك الحركات العسكرية على يد جيوش محمد علي باشا، إلا أن الحرب الفكرية المتزمّته آخذة في التوسع على كل الجبهات، من إندونيسيا في الشرق، وحتى الصحراء الغربية في المغرب.

حيث وجد الكثيرون من أتباع تلك الأيديولوجيا المتشددة ضالّتهم في العزلة عن المجتمع، ومحاربة جوانب التنمية الإنسانية والإبداع البشري لأنها لا تندرج في سياق فعل laquo;السلف الصالحraquo; فسعوا في توحيد كل شيء، من الفكرة إلى الغترة، بحجة أن الدين واحد، وعليه، يجب أن يكون التطبيق واحد، والتفكير واحد، والشكل واحد أيضاً.

لقد تمكن المدّ الأصولي (مع اعتراضي على مفهوم الأصولية بالمعنى الحديث) في العالم الإسلامي من القضاء على التنوع الجميل الذي تميز به الإسلام على مر العصور، فممارسة الشعائر الدينية في اليمن، كانت تختلف، في المظهر وليس في الجوهر، عن العراق، الذي يختلف بدوره عن مصر وماليزيا والهند، وتلك إحدى صفات الإسلام الذي يتميّز بقدرته على التأقلم مع الإنسان في مختلف العصور والأماكن.

يرفض الأصوليون اليوم الأخذ بالفكر الإسلامي القادم من إندونيسيا مثلاً، ومن مصر ومن موريتانيا، لأن العلماء هناك لا يرجعون في تعاليمهم إلى ابن تيمية وابن قيم الجوزية فقط، فهم إلى جانب هؤلاء، يأخذون عن النووي، وابن حجر العسقلاني، والغزالي، وابن حزم الظاهري وغيرهم ممن يرفض الأصوليون قبولهم كعلماء أفاضل لهم مساهماتهم الجليلة في الفكر الإسلامي عبر العصور.

إن توحيد الخطاب الديني، وتوحيد الزي واللهجة والعادات والأعراف، هو مصادرة لحقوق الشعوب في ممارسة حياتها في تناسق واندماج مع إرثها الاجتماعي وفي السياق التاريخي والحضاري للأرض التي يعيشون عليها.

والإسلام الذي نزل في الخليج كما يقول البعض، لم ينتشر في شرق الدنيا وغربها، إلا لأنه لبس العِمّة، ولبس الغترة، ولبس الإزار، ولبس السروال، ولبس البدلة، وكلّما حاول البعض احتكار تفسيره وترجمة معانيه، كلّما أدى ذلك إلى عزلتهم عن العالم، وكما قال (سنيكا) الفيلسوف الروماني: laquo;العزلة تحملُنا على القيام بجميع أنواع الشرورraquo;.