توفيق السيف

رغم كثرة ما كتب في الصحافة العربية عن الصحوة الدينية، الا ان تحليل هذه الظاهرة مازال في الغالب متاثرا باتجاه تبسيطي يركز على الوقائع الميدانية اكثر مما يفكر فيها كظاهرة اجتماعية. الظواهر الاجتماعية هي مجموعة كبيرة من الحالات التي تتكرر في اوقات متقاربة، وتتخذ صورا متشابهة، وغالبا ما تنبعث من دوافع متماثلة ايضا. ويشترك فيها عدد كبير من الناس، كما تترك تاثيرا ملحوظا على الحراك الاجتماعي اليومي. هذا الوصف يميز الظاهرة الاجتماعية عن الحالة او الحادثة التي تشير غالبا الى مثال واحد او امثلة قليلة، قد تتشابه في الصورة الخارجية، لكنها تتباين من حيث الدوافع والمؤديات. وتترك في العادة انعكاسات مؤقتة او محدودة من حيث نطاق التاثير.
لاحظت ان الصحافة الخليجية (والسعودية بشكل خاص) تتعامل مع التطرف الديني الذي نتج عن الصحوة باعتباره غلوا في الدين او هو ثمرة لميول مغالية. واظن ان هذا الاتجاه في التحليل ينطوي على اشكالين مهمين، فهو من ناحية يركز على التجليات الخارجية للحالة، اي الكلام المتشدد او الفعل الذي ينطوي على تشدد. وهو من ناحية اخرى يوجه الانظار الى laquo;الاشخاصraquo; الذين يتبنون هذا المنهج او يسلكون هذا السبيل. تحليل الظواهر الاجتماعية يهتم عادة بالنظر في الدوافع والعوامل المباشرة والمساعدة. كل فعل فردي او جمعي هو منتج لمجموعة مدخلات، اقتصادية او ثقافية او سياسية، او مجموعها. وفي ثمانينات القرن العشرين كتب كثيرون عما وصفوه بصدمة الحداثة باعتباره احد التفسيرات الممكنة لتصاعد الميول الدينية والتشدد. وركز بعض الباحثين على التحديث الاقتصادي الذي كشف عن صعوبات في التكيف بين سكان المنطقة. لكن باحثين خليجيين مثل د. خلدون النقيب اهتم بالجانب السياسي والمؤسسي وركز على عجز المؤسسات السيادية القائمة عن استيعاب التحولات الناتجة عن التحديث. ويعتقد النقيب ان التنظيم الاجتماعي السياسي لايزال اسيرا للتقاليد الموروثة التي قام في اطارها، وهي بطبعها غير قادرة على استيعاب التطورات الجديدة والمختلفة معها في القيم والمعايير.
التطرف كناتج للصدمة هو احد التفسيرات الواسعة نوعا ما. لكنه لا يقدم تبريرا للامتداد الزمني الطويل نسبيا لهذه الظاهرة تحديدا. حين نتحدث عن صدمة فاننا نشير الى شيء مفاجئ يتحول بالتدريج الى اعتيادي او متعارف، لكن اذا امتدت الظاهرة لعدة عقود، كما هو الحال في الحركة الدينية، فان ذلك التفسير لن يكون صالحا لمدى ابعد.
منذ بعض الوقت لاحظ ديفيد ايستون، وهو منظر بارز في علم السياسة، ان معظم الدول التي تبنت سياسات تنموية واجهت تصدعات في نظامها الاجتماعي اثرت على الامن والاستقرار. في سياق اهتمامه بدراسة مشكلات التنمية، اقترح ايستون منهجا لدراسة تاثير السياسات الرسمية على العلاقة بين المجتمع والدولة، اسماه موديل المدخلات - المخرجات. وهو يحاول كشف العلاقة بين سياسات الدولة وبرامج الانماء وبين التغير في سلوك الجمهور ومطالبه وتطلعاته، ومدى انعكاس هذه على شرعية النظام السياسي والاجماع الوطني.
موديل المدخلات ndash; المخرجات معروف ايضا في علم الاقتصاد. وتقوم فكرته على تحديد العوامل التي يحتمل ان تكون شريكة في ابراز حالات او ظواهر اجتماعية محددة، ثم عزل المدخلات (او العوامل) الرئيسية عن الفرعية وتشخيص العلاقة بين كل من هذه العوامل وبين النواتج (المخرجات) المقابلة لها.
واظن ان مثل هذا الموديل يمكن ان يساعدنا في تشخيص الاسباب التي ادت الى بروز ظاهرة التطرف في المجتمع المحلي. اذا قلنا، مثلا، بان الدين، او نوعا محددا من الخطاب الديني، يؤدي الى تاجيج العنف، فسوف نحتاج الى تحديد معنى كون هذا العامل مؤثرا، اي: ما هي الشروط التي تجعله مؤثرا او غير مؤثر. هل هي شروط تخصه ام تخص المتلقي. ومتى يكون مؤثرا او غير مؤثر. اي ما هي العوامل الاضافية التي تعتبر شرطا او مقدمة لجعله مؤثرا. وما هي العوامل الغائبة (اي نقاط الفراغ) التي تجعل من هذا العامل بديلا عن عوامل اخرى.
طبقا للتحليل الذي توصلت اليه، فان الخطاب الديني لعب دورا اضافيا او مساعدا ولم يكن ابدا العامل المحوري في بروز الظاهرة التي نسميها بالتطرف. ولهذا فان التركيز على هذا الخطاب في المعالجة قد لا يفيدنا في اجتثاث التطرف وان ساعدنا على تخفيفه او تغيير اتجاهاته، او ربما تاجيل مخرجاته المثيرة.