يوسف نور عوض

على مدى آلاف السنين ظل النيل يتدفق من منابعه في المناطق الاستوائية ومن هضبة الحبشة دون أن يدرك أحد أن هناك مشكلة بين دول المنبع ودول المصب، فقد بقي النيل عبر هذه العصور ملهم الخيال وواهب الحياة، ولم يدر في خلد أحد أنه سيصبح مشكلة تتصارع حولها دول المنابع مع دول المصب، وتحاك حولها المؤامرات المشبوهة من دول لها مصالح في خلق الصراع.
وقبل أن نتعرض إلى هذه القضية الشائكة نحاول أن نتعرف على طبيعة الحياة في وادي النيل، والأسباب التي يرى الكثيرون أنها سبب هذه المشكلة. خاصة أن الاعتقاد ظل سائدا أن دول المنابع لا تحتاج لهذه المياه بسبب هطول الأمطار المستمر فيها وتعري التربة من جراء هذا الهطول، ولكن الخلاف أصبح الآن مؤكدا بين دول المنابع ودولتي المصب مصر والسودان، وكما هو معروف فإن دول المنابع هي بوروندي ورواندا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا وكينيا وأوغندا وإثيوبيا وإرتيريا.
أما الخلاف فيدور بين دول المنابع ودولتي المصب بحسب مجلة العلوم الأفريقية حول اتفاقيتين، هما اتفاقية عام ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين واتفاقية عام ألف وتسعمئة وتسعة وخمسين. إذ تعتقد دول المنابع أن هاتين الاتفاقيتين أعطيتا مصر والسودان امتيازات كبرى في استخدام مياه النيل، وذلك ما يوجب من وجهة نظر هذه الدول ضرورة إعادة النظر فيه لأجل تحقيق مصالح الدول المشاطئة للمنابع. وهو رأي لا توافق عليه مصر والسودان اللتان ترفضان أي تفكير في إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة سابقا ولا تأخذان بالتحذيرات أن هذه الأزمة أثارتها دوافع تنطلق من شح المياه في كثير من بلاد العالم، ذلك أن السودان ومصر يعتقدان أنه رغم وفرة مياه النيل فهي لا تكفي لسد احتياجات عشرة في المئة مما هو مطلوب في وادي النيل، ذلك أن بلدا كالسودان يمتلك أكثر من مئتي مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة لا يزرع من أراضيه حتى الآن أكثر من عشر هذه المساحة، وقد جرت محاولات خلال مرحلة التسعينيات من القرن الماضي لحل هذه المشكلة ولكن التطور في هذا الاتجاه كان بطيئا، وقد ارتفعت أصوات في أوغندا تطالب بتعويضات مالية من دول المصب، كما اقترح النائب الأوغندي 'آمون موزورا' الذي دعا برلمان بلاده أيضا إلى عدم الاعتراف بالاتفاقيات التي وقعت خلال العصر الكولونيالي.
وقد تكثفت الجهود من أجل إيجاد صيغة للتعاون بين الدول المشاطئة ودول المصب، وأسست لهذا الغرض لجنة التعاون الفني في عام ألف وتسعمئة وثلاثة وتسعين بهدف التعاون بين دول حوض النيل والمحافظة على البيئة، وقد تبع ذلك عدة مؤتمرات بدعم من الوكالة الدولية الكندية للتنمية حيث وضعت خطة للتعاون بين دول الحوض في عام خمسة وتسعين، وتعاون البنك الدولي في فترة لاحقة مع الوكالة الكندية في هذا الاتجاه، وقد أدت هذه التطورات إلى أن الدول المشاطئة بدأت في عام ثمانية وتسعين مباحثات للبحث في الوسائل التي يمكن بها الاستفادة من مياه النيل، وأدى هذا التعاون إلى ما أطلق عليه مبادرة دول حوض النيل وهي المبادرة التي أسست لها سكرتارية في 'عنتيبي' في عام ألفين واثنين بتمويل من البنك الدولي، وفي إطار هذه السكرتارية اجتمعت الدول العشر التي تتشارك في حوض النيل من أجل مزيد من التعاون في استغلال المياه.
وعلى الرغم من هذه الجهود المكثفة من أجل إيجاد صيغة للتعاون بين الدول المشاطئة ودول المصب فلا يبدو إطلاقا أن هناك تصورا واضحا لما تريده الدول المشاطئة، فهل هي تريد فقط أن تستخدم المياه من أجل توليد الطاقة أم أنها تريد المياه نفسها من أجل استغلالها في الأغراض الزراعية، وإذا كان ذلك هو الهدف، فالسؤال هو كيف سيؤثر هذا التوجه على حصة كل من مصر والسودان، وهنا يجب ألا نتوقف عند هذه المسألة بكونها قضية اقتصادية كما يريد لها البنك الدولي إذ هناك بكل تأكيد بعد سياسي بدأ يتحرك من أجل محاصرة السودان، وربما في مرحلة لاحقة مصر، ويبدو ذلك واضحا من خلال الاهتمام الذي أبداه مجلس الأمن بقضية الاستفتاء في جنوب السودان إذ المعروف أن مجلس الأمن الذي وصف أخيرا بأنه مؤسسة غير ديمقراطية لا يتحرك إلا حين تكون هناك دول كبرى لها مصالح أو تريد أن تحدث ضررا لدولة تعتقد أنها في حالة ضعف، وذلك وضح عندما دعا مجلس الأمن إلى الاستعداد للاستفتاء المقرر إجراؤه في جنوب السودان مطلع العام القادم، إذ ما الذي يجعل مجلس الأمن يدعو إلى مثل تلك الاستعدادات؟ فهل مجلس الأمن يريد دولا متماسكة أم هو يريد أن يرى دولا تتفكك من أجل بدء المشاكل في داخلها؟ ولم يقتصر موقف مجلس الأمن على جنوب السودان وحده بل تناول الأمر دارفور أيضا، ليس لأن مجلس الأمن مهتم بقضية دارفور بل لأنه يريد أن يثير المشاكل لحكومة السودان، نحن نعرف أن مشكلة دارفور بدأت منذ عام ألفين وثلاثة ولكن هذه المشكلة تضاعفت بعد أن وقع السودان اتفاقية نيفاشا مع الحركة الشعبية، ولو كانت الولايات المتحدة تريد حلا لمشاكل السودان لشجعت المتمردين في دارفور على التوصل إلى حل مماثل يشبه ما تم في نيفاشا، ولكن الولايات المتحدة لا تريد ذلك لأن كل ما تسعى إليه هو أن ترى السودان مفككا حتى تنتهي دولته. ولابد هنا أن أتوقف لأتحدث قليلا عن التطورات التي يمكن أن تحدث في السودان خلال الشهور المقبلة، وفي البداية أقول إنني لست ضد أي مجموعة أن تختار ما تريده لنفسها ويشمل ذلك جنوب السودان، ولكن مهمة الفكر هي أن يوضح للأطراف نتائج ما يقومون به، وكنت قد كتبت في الماضي أن وحدة السودان قدرية وجغرافية، ذلك أنه إذا حدث الانفصال في الجنوب، فكيف ستتحرك هذه الدولة إلى الخارج خاصة، إذا كانت هناك ميول عدائية في عملية الانفصال، لا شك أن هذه الدولة ستجد صعوبة كبيرة، كما أن هناك مجموعات كبيرة من الجنوبيين يعيشون في شمال السودان، فهل تقع أعمال عنف في الشمال أم نتوقع دولة جنوبية مستقلة ولها أياد ممتدة في شمال السودان، من ناحية أخرى هل يؤدي انفصال جنوب السودان إلى توجهات مماثلة في دارفور؟ وإذا حدث ما سيحدث في الجنوب في دارفور أيضا، فكيف ستتصرف هذه الدولة الجديدة في طريقها إلى الخارج؟ هذه مشكلات يجب أن نأخذها في الحسبان وهي تدعونا إلى التفكير المسبق في ما سيكون عليه مستقبل هذا القطر الواعد، ويجب هنا أن تتوقف مجموعات الصفوة للتفكير الجدي، أيهما أفضل أن تحقق هذه المجموعات طموحاتها في تسلم زمام الحكم والثروة بعد تفكيك الدولة، أم الأفضل أن تسهم في البقاء في إطار الدولة الموحدة مع تحقيق مطالب عادلة في مناطقهم؟
يقول الكثيرون إن الزمن أصبح متأخرا من أجل إصلاح الأخطاء التي يندفع نحوها الجميع، وليس ذلك صحيحا في مسألة جوهرية كهذه تتآلب قوى كبرى سواء من خلال مياه النيل أو من خلال انفصال جنوب السودان من أجل إلحاق الأذى بهذا القطر. وما أدعو إليه في هذه المرحلة أن يتوقف الجميع ليتساءلوا عن الأسباب التي تجعل بعض الدول الكبرى تتآمر على السودان لتبدأ بعد ذلك مرحلة الإصلاح ليس بالاستجابة لما تريده هذه الدول بل بتفويت الفرصة عليها من خلال إجراء الإصلاح الذي يبقي على وحدة البلاد وتماسكها القومي.