عمّار علي حسن
قرون طويلة عاش فيها حكام مصر مقدسين أو مبجلين، يحيطهم الجلال وتكللهم الهيبة، من دون أن يدري من ذهبوا في القرون الغابرة أنه سيأتي يوم، وينقلب فيه الدين إلى غير صالح السلطان، فبعد أن كان التدين يعبد أمامه طريقاً وسيعاً بات يتيح لفئة تناوئه فرصة تكفيره، استناداً إلى تأويل ذاتي وضيق لنصوص القرآن الكريم.
ونعني بهذه الفئة الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي دبجت بياناتها وتأويلاتها ابتداء من ستينيات القرن المنصرم، لتكفر مؤسسات الدولة، مهما كانت صغيرة أو مقصية عن بؤرة صنع القرار، أو مركز الهيمنة والتحكم في جسد الدولة المصرية الفارع.
وبدأت هذه المسيرة، المقطوعة من تاريخ مصر، بما رآه سيد قطب في كتابه quot;معالم في الطريقquot;، الذي اعتبر فيه أن المجتمع الراهن quot;جاهليquot;، ونادي بـquot;الحاكميةquot;، أي quot;الحكم بما أنزل اللهquot;، ولذا رفض أي نظام سياسي لا يمتثل لهذا التصور، فها هو يقول: quot;... ليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه وتعالى لا الشعب ولا الحزب ولا أي من البشرquot;، ومن ثم يصبح الحاكم الذي لا ينتهج هذا النهج في نظر قطب خارجاً عن ملة الإسلام، أو جاهلياً، تجب مقاومته، واستبداله بـquot;جماعة مؤمنةquot; تطبق quot;شرع اللهquot;.
وتلقفت الجماعات والتنظيمات التي تشظت، بشكل لافت، هذه الفكرة، وراحت تعمق فكرة تكفير الحاكم. ففي كتابه الموسوم بـquot;رسالة الإيمانquot; يقول صالح سرية أمير ما عرف بتنظيم quot;الفنية العسكريةquot;، الذي قاد محاولة فاشلة لاغتيال السادات عام 1974: quot;إن الحكم القائم في جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر، ولاشك في ذلكquot;، مستنداً في هذا إلى غياب quot;الحكم بما أنزل اللهquot;! ويرى أن كل من والى الحكومات والأحزاب والجماعات الكافرة فهو كافر، وأن تحية العلم شرك والسلام الجمهوري شرك. وتبنت quot;جماعة المسلمينquot; المعروفة أمنيّاً وإعلاميّاً باسم quot;التكفير والهجرةquot; الموقف نفسه، إذ حكم أميرها شكري مصطفى على مؤسسات الدولة جميعاً بالكفر، وطالب باعتزال الأجهزة الحكومية ومؤسساتها والامتناع عن أداء الخدمة العسكرية أو قبول الوظائف العامة. وفصل محمد عبدالسلام فرج مؤسس quot;تنظيم الجهادquot; في كتيبه الشهير quot;الفريضة الغائبةquot; هذه النقطة كثيراً، متخذاً موقفاً مشابهاً، إذ رأى أن الحاكم quot;مرتدquot;، وأن أبواب الكفر التي أخرجته من ملة الإسلام عديدة، ولذا وجب قتاله. وفي رسالة لعبود الزمر، أمير quot;جماعة الجهادquot; الذي لا يزال يقضي فترة عقوبة لاشتراكه في اغتيال السادات، يقول: quot;شرف الله الجماعة بقتل السادات على أيدي بعض رجالهاquot;، ويطالب بـquot;الخروج على الحكام الكفرة وقتالهم وخلعهم، وتنصيب إمام مسلم واجب بإجماع علماء المسلمين على كل مكلفquot;.
وتتفق جماعتا quot;الجهادquot; وquot;الجماعة الإسلاميةquot; -قبل أن تراجع الأخيرة عن موقفها- على الحكم بـquot;كفرquot; رئيس الجمهورية كفر عين، فهو في نظرها خارج عن ملة الإسلام، لأنه لا يطبق quot;شرع اللهquot;، ويستبدله بقوانين بشرية وضعية، ويستهزئ بالشريعة الإسلامية، ويستحل ما حرم الله، ويجعل نفسه ربّاً من دون الله فيحل ما رحمه، ويتخذ من صفة الألوهية، وهي حق التشريع المطلق، الذي لا يكون إلا لله تعالى. وكان طارق الزمر يرى أن quot;قتال الحاكم واجب على جميع المسلمين كل بحسب قدرته، ولا يسقط عنهم إثم ترك هذا الواجب إلا أن يهبوا ويخلعوا الحاكم، الجاهلي العميلquot;. وعزز أمير quot;الجماعة الإسلاميةquot;، المسجون في الولايات المتحدة حاليّاً، عمر عبدالرحمن هذا التصور فقال ذات يوم إن المفسرين أجمعوا على عدم طاعة أولي الأمر في المعصية، وأجمعوا على وجوب الخروج عليهم لكفرهم.
وفي حقيقة الأمر فإن هذه الجماعات والتنظيمات حين كفرت الحاكم لم تكن تريد إصلاحاً سياسيّاً بل رمت إلى استبدال الحاكم quot;الكافرquot; من وجهة نظرها، بآخر quot;مؤمنquot; حسب مقاييسها، وطرحت تصوراً لشكل الحكم الذي تريده، لن يقود في خاتمة المطاف إلا إلى quot;ثيوقراطيةquot; أخرى، تحت لافتات جديدة، قائمة على فهم مغلوط للنص القرآني، هي quot;الحكم بما أنزل اللهquot; وquot;تطبيق الشرعquot; وquot;حكم الجماعة المؤمنةquot; وquot;الخلافة الإسلاميةquot;. وهذه الشعارات قد لا تقود في حد ذاتها إلى شكل من أشكال quot;الحكم الإلهيquot; لو تم تأويلها وفق الجوهر الصافي والمقاصد الأساسية للدين الإسلامي، ولكن حسب طرح هذه الجماعات والتنظيمات، فإنها تبدو إطاراً أيديولوجيّاً لهذا النوع من الحكم، الأمر الذي يعني إعادة إنتاج صورة quot;الحاكم الإلهquot; التي كانت سائدة في مصر القديمة حسب بنية معرفية جديدة.
كما أن وجود مؤسسة تحكم باسم الدين يعد خروجاً على القيم الدينية الإسلامية، لأنه نوع من التجسيد البشري للدين، الأمر الذي يتناقض مع المكانة المطلقة له. فتحول سلطان الدين إلى مؤسسة حاكمة، يعني أن هذه المؤسسة ملكت ما للدين من سلطان. والحاكمية الدينية في الإسلام هي من خلال إعلاء القيم والقواعد الدينية المتفق عليها أو التي تختارها الأمة جمعاء، وليست لشخص، ولا لجماعة، مهما علت مكانتها واتسع نفوذها.
وعلاوة على ذلك فإن فكر التكفير ليس مصري الجذور، بل هو صنيعة التأثر بتيار فكري نشأ في شبه القارة الهندية، الأمر الذي تكشفه المقابلة بين أفكار سيد قطب وما جاء في كتابات أبي الأعلى المودودي، خاصة كتابه quot;الحكومة الإسلاميةquot;. وهنا يقول محمد سعيد العشماوي إنه على النقيض من مصر فإن شبه جزيرة الهند منطقة المتناقضات الشديدة والمتعارضات العنيفة. ونتيجة ظروف تاريخية معقدة، فقد نشأ فيها تيار إسلامي تفاعلت فيه مركبات النقص ومشاعر الاضطهاد وأحاسيس الأقليات وكراهية الاستعمار وعجمة الإسلام، فأدى إلى رد فعل -مع من لا يدرك طبائع الأمور ولا يتعقل منطق الواقع ولا يتفهم حركة التاريخ ولا يتبع أسلوب العلم ولا يتشرب روح الدين- تردى في المبالغة العنيفة والتعصب البالغ والتعالي الشديد، وبهذا انحدر إلى تصور منغلق على نفسه فقط، متقوقع على ذاته وحدها، منعطف على خيالاته وأوهامه، فبه جمود وجدة -هي إلى صلابة التحجر منها إلى شدة الحق.
التعليقات