عبد المنعم سعيد
في 31 مارس (آذار) الماضي نشرت مقالا في هذا المكان تحت عنوان laquo;الاختبار العراقي.. والعربي أيضا!raquo;، كانت الفكرة فيه، وقد انتهت الانتخابات العراقية، أن العراق أصبح في مفترق الطرق ما بين الفوضى من ناحية والمضي قدما في الطريق الديمقراطي للاستقرار والتقدم من ناحية أخرى. وكان لذلك معنى عربي أصبح موضع اختبار هو الآخر، فالحديث العربي في الصحف والمنتديات لا ينقطع أبدا عن الديمقراطية باعتبارها هي laquo;الحلraquo; لكل أوجاع العرب الذين ضاقوا بالاستبداد وتخلف الحال؛ ومن ثم فإن الجمهور العربي، وربما العالمي أيضا، بات منتظرا نجاح نموذج واحد يصلح بعد ذلك لكي يكون تجربة عربية تقول إن الديمقراطية ممكنة. وكانت الفكرة أيضا أن مثل هذا التحول الجوهري والتاريخي في نظام الحكم يحتاج إلى درجة عالية من الحكمة وبعد النظر التاريخي والوطنية التي تتفوق على كل شيء آخر.
ما حدث فعلا حتى الآن هو أن العراق لم ينجح في الامتحان، وبعد ثلاثة شهور من المفاوضات والمباحثات المباشرة وغير المباشرة لم تنجح القوى السياسية المختلفة إلا في تجنب الحرب الأهلية، حتى ولو كانت اتجاهات العنف في تزايد بصفة عامة. أما تشكيل وزارة جديدة تنجح في إعداد البلاد لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي والتخلص من آثار الغزو الأميركي والحرب الأهلية وحتى الحروب المتتالية السابقة مثل الحرب العراقية ndash;الإيرانية وحرب تحرير الكويت وما تبعها من آثار، فإنها لم تنجح في ذلك، بل على العكس من ذلك، راحت القوى المختلفة تخلق تحالفات عاجزة عن تحقيق توافق قومي ينقذ البلاد من عثرتها، ولسبب أو لآخر بدا أن الساسة العراقيين أكثر إخلاصا لأنفسهم وطوائفهم من إخلاصهم للعراق. ولكن المعضلة هنا أن الحالة العراقية من الهشاشة بحيث لا تتحمل مثل هذا الشد والجذب طويلا، وربما كان الحال لن يصبح أفضل لولا الانتخابات والممارسة الديمقراطية التي أعطت العراق فرصة للتنفس والممارسة السياسية، ولكن هذا المكسب السياسي محدود العائد، حيث يتوقع الشعب العراقي في النهاية أن يجد حكومة تقوم بتصريف أموره في الحياة.
ولكن النموذج العراقي أكبر من العراق، وهو دليل على تعقد الحالة العراقية عن غيرها في الدول العربية الأخرى بما فيها من انقسامات دينية ومذهبية حادة، إلا أن فيه مجمل المشكلات العربية مع laquo;الحلraquo; الديمقراطي، وlaquo;الحلraquo; الاستبدادي أيضا. وبشكل ما عرفت الدولة العراقية الحلين، ومن عجب أن كلا منهما لم يكن أقل دموية عن الآخر، وفي كل الأحوال كانت الأوضاع العراقية حالات نقية وصافية مما يجري أو قد يجري في بلدان عربية أخرى. ولعلها بهذا المعنى تعبر فعلا عن laquo;الاستثناء العربيraquo; الذي ذاع الحديث عنه خلال التسعينات من القرن الماضي حينما انتشرت الديمقراطية مع انهيار الاتحاد السوفياتي وذيوع العولمة فكرا وسلوكا، حيث بدا العالم العربي عصيا على التغيير. وهي حجة استخدمتها إدارة جورج بوش مع العقد الأول من القرن الحالي لكي تبرهن على صدق منهجها؛ أن laquo;الاستثناء العربيraquo; لا يرجع لظروف بنائية في المجتمع العربي والدولة العربية بقدر ما هو فرض جاءت به نظم غاشمة تحتاج إلى دفعة خارجية حتى تتغير. وكان العراق التجربة والخطوة الأولى نحو تطبيق نموذج متكامل ما زلت أذكره على لسان أمراء المحافظين الجدد الذين لم يجدوا غضاضة في التأكيد على أن الهدف من التجربة لم يكن بغداد بالضرورة وإنما كان القاهرة والرياض وعواصم وحواضر عربية أخرى.
القصة الأميركية هنا لا تهمنا كثيرا، فقد كان توقع فشلها سائدا، بل إن الضعف الديمقراطي والليبرالي عموما في العالم العربي كان راجعا في جزء منه على الأقل إلى أنه النظام السياسي السائد بين القوى الاستعمارية السابقة والحديثة بحيث بدت الأفكار الديمقراطية والليبرالية مستوردة من بلاد غاشمة تأتي إلينا بالغزو الفكري والثقافي بعد الغزو العسكري. ولكن كل ذلك لا يعني أن هذه الأفكار ضرورية للعالم العربي، فالتجربة الاستبدادية التي أخذت أشكالا شتى قومية واشتراكية ودينية لم تأخذ العالم العربي بعيدا في اتجاه التقدم، وباستثناء التقدم التكنولوجي والصحي، الذي جاء مستوردا بالمعنى الحرفي للكلمة، فإنه لم يحدث تقدم يذكر بمعنى القدرة على التنظيم والابتكار والإبداع والمنافسة في السوق العالمية للسلع والبضائع والأفكار والقيم. وعلى العكس من ذلك باتت بلادنا معرضة لتجربة في الردة الثقافية والفكرية أخذت أشكالا تطوعية أحيانا، وقسرية من الدولة أو المجتمع أحيانا أخرى، وشملت أوضاع المرأة، ومعها أوضاع الأقليات، والنظرة للعالم. وفي أحيان بلغ التردي والتعصب مبلغه، فكانت الحركات والجماعات الإرهابية التي سلطت جام غضبها على شعوب العالم مرة، وعلى الشعوب العربية مرات. ومن الناحية الإحصائية البحتة فإن عدد ضحايا الإرهاب في العالم العربي يمثل الأغلبية العظمى من الضحايا في العالم كله، بما فيه قتلى وجرحى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 الشهيرة.
معنى ذلك أننا نحتاج العودة مرة أخرى إلى مقاعد الدرس والبحث وننظر إلى المسألة مرة أخرى، فمن يطيق الآن حكما مستبدا بدعوى الحفاظ على الدولة والمجتمع من نفسه أولا ومن العالم الخارجي ثانيا؟. ولكن من يطيق الديمقراطية أيضا على الطريقة العراقية حيث يتوقف قلب الدولة عن الخفقان أو ينتظر معجزة اتفاق من نوع ما، أو تدخلات خارجية تحسم الموقف بالقوة المسلحة أو بالإغراء مالا أو مصلحة لا فرق؟. وربما يحتاج الأمر أن نعيد المسألة إلى أصولها الأولى، ففي البداية كانت الدولة وحكم القانون فيها وكفاءة الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومسارات طرق وحركة بشر، ومن بعدها يكون المجتمع وقد خلق توافقا ما من أجل سلامة الناس. لقد ذاعت كلمة laquo;التوافقraquo; كثيرا في العالم العربي خلال الأعوام الأخيرة باعتبارها المفهوم الأصلي لنوعية معينة من الديمقراطية تذيع في الدول متعددة الأعراق والمذاهب والأديان واللغات بحيث يتم تجاوز laquo;العددraquo; الذي يخص جماعة إلى ضرورة laquo;التوافقraquo; بينها أولا في الأمور الأساسية. ولكن المعضلة أن laquo;التوافقraquo; بات يعني ضرورة laquo;الإجماعraquo; وحصول كل طرف على laquo;فيتوraquo; أو حق للاعتراض يجعل القادة فريسة أكثر أفراد الجماعة تطرفا. وكان ذلك هو ما جرى في العراق ولا يجب أن يحدث مرة أخرى، ولا بد من الجمع ما بين laquo;التوافقraquo; والأثقال النسبية للجماعات والفرق، على ألا يسبق أيا منها ثبات كيان الدولة وبقاؤها. كيف يحدث ذلك؟.. لا توجد له وصفة جاهزة، ولا يوجد في دروس التاريخ ما يأخذنا إلى الطريق القويم، وفي كل الأحوال، ومهما كانت التجارب فإن الطريق سوف يكون قاسيا ومرا؟!.
التعليقات