حسن حنفي


من الطبيعي أن يحزن الإنسان لأولويات الخطاب الإسلامي داخل الأوطان من بعض الأفراد والجماعات. فكرد فعل على تهميشها، دفع ذلك بعضهم إلى مزيد من التطرف والعنف. بدأت مظاهر إثبات الذات من الباب الخلفي، طالما أن الباب الأمامي مسدود، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية باب مغلق.

وقد انتشر التمسك بالمظاهر مثل الحجاب والنقاب، واللحية والجلباب، ومكبرات الصوت. وهي مظاهر لها احترامها الكبير داخل الأوطان تعبيراً عن حرية التدين وفهم السلوك الديني. ونحن أحرار داخل البلاد. يستطيع أن يحاور بعضنا بعضاً دون تكفير أو استبعاد متبادل. فللتدين بابان. باب ضيق وباب واسع للدخول فيه. الباب الضيق المظاهر والأشكال والرسوم. يتمسك بها فريق ويعتبرها جوهر الدين. ويتجاوزها فريق آخر ويعتبرها عادات وتقاليد وليست عبادات ومعاملات. والباب الواسع باب القيم الإسلامية التي تظهر في السلوك الإسلامي، حب المعرفة وزيادة الإنتاج والعمل الصالح، وحسن المعاملة، والقدوة الحسنة.

فإذا ما أخذ قرار الهجرة إلى الغرب نظراً لضيق الحياة المادية داخل الأوطان والسعي إلى رزق أوفر في الخارج، أو لضيق الحياة السياسية والسعي للحرية بتعبير أوسع، حمل نفس السياق معه لإثبات وجوده أيضاً في مجتمع أكثرية هو غريب عنها. وقد يستفيد من المجتمع الجديد مرتين. الأولى في طلب الرزق والحياة الكريمة. والثانية في الحفاظ على هويته التي حملها معه. الأولى متاحة للجميع. أما الثانية فقد تثير عنصرية المجتمع الجديد وهويته أيضاً التي يدافع عنها ضد الهويات الجديدة الدخيلة على رغم حرية الشعائر ومساواة المواطنين فيها، من أهل البلاد أو من المهاجرين. فيدخل في صراع معها. وتنشأ قضية الاندماج أو العزلة، المواطنة أو الغربة.

وتبدأ مظاهر صراع جديد بين الإسلام والغرب، من خلال سجالات واحتقانات الإسلام في غنى عنها، فيظهر تحريم بناء المآذن، والرسوم الدانماركية والسويدية، والأحياء التركية والعربية داخل المدن الغربية مثل الجاليات الألمانية والإيطالية والإسبانية والهولندية داخل مجتمع الهجرة الجديد في الولايات المتحدة الأميركية الباقية حتى الآن على التعددية اللغوية والثقافية والمدنية. وقد يبدأ التعارض بين الشريعة والقوانين المدنية السائدة في بلاد الهجرة فيما يتعلق بتعدد الزوجات، والصلاة أثناء العمل، ووضع أطفال المسلمين في حضانات خاصة حفاظاً على دينهم وتقاليدهم. ولذات الأسباب قد يبدأ أيضاً صعود اليمين الأوروبي واشتداد ظاهرة الخوف من الإسلام، بعد أن أصبح الدين الثاني في أوروبا بعد المسيحية، ستة عشر مليوناً من المسلمين الذين قد يتحولون في مدة نصف قرن إلى أغلبية في بعض المدن الأوروبية نظراً لنسبة التكاثر عند المسلمين وقلتها عند الأوروبيين، وتستثار كراهية الأوروبي التقليدية للإسلام والمسلمين، وعنصريته الدفينة وذاكرته التاريخية، انتشار الإسلام واستيلائه على ممتلكات الدولة الرومانية، والحروب الصليبية. والآن، يقول اليمين الأوروبي، يعود الإسلام إلى غزو أوروبا في عقر دارها.

وفي هذا الجو المتوتر بين الإسلام والغرب ينقل المسلمون المهاجرون سلوكهم داخل الأوطان الذي نشأ في سياق الاضطهاد ورد الفعل عليه بالتمسك بالمظاهر في الأوطان الجديدة. ينقلون سلوك المجتمع النامي إلى المجتمع المتقدم طبقاً للتقسيم الشائع فيزداد التوتر بدعوى حفاظ كل طرف على الهوية. ولو شاء المهاجر الحفاظ على هويته لبقي في وطنه، وضحى بالهجرة في سبيل الرزق. فإذا ما تحول الأوروبي إلى الإسلام لضيقه من المجتمع الأوروبي، عنصريته، وطائفيته، وماديته، ونسبيته، وشكه، وعدميته، التي أكثر الفلاسفة الأوروبيون أنفسهم الحديث عنها، فإنه يكفر كلية بالحضارة الغربية. وقد يتمسك بالإسلام الشعائري المظهري. وينضم إلى إسلام المهاجرين بلبس الجلباب. يطيل اللحية، ويمسك السبحة. وقد يصبح أكثر تشدداً من المسلمين المهاجرين. فالنقيض يؤدي إلى النقيض. وبدلا من أن يصبح الإسلام الأوروبي إضافة إلى الإسلام فإنه قد يصبح عبئاً عليه. يترك قيم الغرب مع أزمته. يترك العقل والعلم والتقدم والدستور والصناعة التي آمن بها المصلحون المحدثون مثل الأفغاني ومحمد عبده ورواد النهضة الأوائل مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي. وتزداد الشبهات حول الإسلام والافتراءات عليه التي حاول المصلحون الرد عليها. وتتأكد بسلوك المسلمين المهاجرين والمسلمين الأوروبيين. ويتم الدفاع عنها وكأنها هي حقيقة الإسلام وروحه.

وهكذا تنقلب أولويات الخطاب الإسلامي، من الإسلام والمعرفة، والإسلام والعلم، والإسلام والعمل والإنتاج، والإسلام وحقوق الإنسان والطفل، والإسلام والتقدم، وهي القيم التي أنشأت الحضارة الإسلامية التي ما زلنا نفخر بها حتى الآن، من الأندلس إلى الصين على مدى أربعة عشر قرناً. وكأنه لم يعد يتبادر إلى ذهن أحد الإسلام والحرية، الإسلام والعدالة، الإسلام وحقوق الشعوب، والإسلام والسلام. نثير الغبار ثم نشتكي من عدم الرؤية. نثير الشبهات حول الإسلام ثم نشكو من هجوم المستشرقين والإعلام الغربي. نعطي الأسباب ونتعجب من النتائج.

وفي الوقت نفسه الذي تهوَّد فيه القدس، ويستمر احتلال فلسطين، ويختفي المسلمون المهاجرون والأوروبيون، يهتمون بزواج القاصرات وبالأكل الحلال أكثر مما يهتمون بالمصالح العامة وما تعم به البلوى. لا يتساءلون كيف وُجد الفقر في بلاد الإسلام ولدى المسلمين كل مقومات الغنى من أموال وأرض وعمالة وخبرة. ولا يندهشون من الطائفية والمذهبية والعرقية التي تفتت بلادهم في العراق والسودان والصومال واليمن وغيرها ودينهم يقوم على التوحيد. لا يرون الأزمات الإقليمية، ولا البؤر الملتهبة، والمشاكل والقلاقل، واستمرار الاستعمار الاستيطاني في فلسطين كما يرون ضرورة الحجاب والنقاب. لا يقترحون على الغرب حلولا إسلامية لحل الأزمة المالية العالمية لمساعدة الغرب في التغلب على أقسى أزمة تواجهه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تهدد بإفلاس النظام الرأسمالي كله بعد أن أفلس النظام الشيوعي. ومع ذلك طالما كتب المسلمون عن الإسلام والرأسمالية، والإسلام والاشتراكية. لا يتأسون بمسلمين أوروبيين مثل جارودي الذي كان إسلامه إضافة للمسلمين وللأوروبيين على حد سواء وليس خصماً منهم.

فمتى يعيد المسلمون في الأوطان وفي بلاد الهجرة ترتيب أولويات الخطاب الإسلامي، ويدخلون الإسلام من الباب الواسع وليس من الباب الضيق، من باب الحياة العامة وما تعم به البلوى، ومن لم يحمل هموم المسلمين فليس منهم؟ متى يصبح سلوك المسلمين في الداخل والخارج خير دعوة للإسلام؟ متى ينتصر المسلمون على أرضية الغرب، ولا ينهزمون على أرضيتهم؟ متى يتحول الخوف من الإسلام في الغرب إلى الثقة به والاعتماد عليه، بحيث يرى فيه الأوروبيون، مسلمون وغير مسلمين، خلاصهم من أزمتهم؟ متى يرى المسلمون أنفسهم في بلاد الغرب خير دعاية للإسلام في العمل والإنتاج، في العلم والمعرفة، وفي المدنية والحداثة وليس في البرقع والحجاب؟