وحيد عبد المجيد


على مدى ما يقرب من نصف قرن، ومنذ إصدار ميثاق الوحدة الثقافية في فبراير 1964، ظل العمل الثقافي العربي المشترك أملاً محلقاً في سماء الأمة. ولكن النزر اليسير الذي تحقق من هذا الأمل يُظهر إحدى المفارقات في عالمنا العربي والعمل المشترك بين بلاده.

وعلى كثرة هذه المفارقات، تبدو لهذه المفارقة دلالتها الأكثر إثارة للتأمل لأن الجامع الرئيسي الذي يجمع العرب بقي على هامش الجهود التي بُذلت للتعاون بين بلادهم. كانت هذه هي الحال قبل إصدار ميثاق الوحدة الثقافية العربية وبعده. وبالرغم من أن ديباجة هذا الميثاق لاحظت أن (وحدة الفكر والثقافة هما الدعامة الأساسية التي تقوم عليها الوحدة العربية)، لم يكن لهذه الملاحظة أثر ملموس في العمل العربي المشترك الذي ضعفت مقوماته الثقافية يوما بعد يوم.

ومن هنا أهمية فكرة القمة الثقافية العربية، التي ظل الغموض يكتنفها إلى أن تبنتها مؤسسة الفكر العربي في أكتوبر 2009، وتحمس رئيسها الأمير خالد الفيصل للسعي إلى عقدها. وأعطت القمة العربية العادية الأخيرة في مارس الماضي دفعة لهذه الفكرة، إذ دعا إعلان سرت الصادر عنها إلى عقد قمة ثقافية. وتبع ذلك تنظيم لقاء تحضيري لها في بيروت الأسبوع الماضي، شارك فيه 120 من المثقفين ورؤساء وممثلي عدد من أبرز المؤسسات الثقافية العربية.

كانت فكرة هذه القمة غامضة، حين وردت إشارات عابرة إليها مرات عدة في سياق الحديث عن القمم النوعية العربية، التي لم ير النور منها حتى الآن غير القمة الاقتصادية والاجتماعية. وظل الغموض محيطاً بها حين طُرحت في الخريف الماضي في مؤتمر نظمته مؤسسة الفكر العربي، قبل أن تعمل عليها الأمانة العامة لهذه المؤسسة بمنهج علمي ساعد في جعلها أكثر وضوحاً وتحديداً. فإذا كان الهدف من القمة هو تحقيق نقلة ملموسة باتجاه عمل ثقافي عربي مشترك، فالسبيل إلى ذلك هو الاتفاق على عدد من المشاريع المحددة، التي يمكن تنفيذها في مدى زمني محدد، والبناء عليها في المرحلة التالية.

ولكي تكون هذه المشاريع رافعة لعمل ثقافي مشترك فعلاً وليس قولاً، لابد أن تلبي الحاجات الأساسية الملحة، وتتوفر لها الآليات اللازمة للتنفيذ. ولذلك لا يمكن اختيار هذه المشاريع والاتفاق عليها من دون نقاش وتداول وتشاور يشارك فيه المثقفون والمبدعون والمؤسسات والاتحادات والجمعيات الثقافية.

وهذا هو فحوى المنهج الذي اتُبع في بلورة مفهوم القمة الثقافية وتنظيم اللقاء التحضيري لها في بيروت يومي 13 و 14 يوليو الحالي بالتعاون بين مؤسسة الفكر العربي والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو) تحت مظلة جامعة الدول العربية. وكان هذا المنهج هو العامل الأول وراء نجاح اللقاء التحضيري، الذي شاركت فيه مؤسسات وشخصيات من 18 دولة عربية، على نحو جعل فكرة القمة الثقافية قريبة من الواقع للمرة الأولى.

فقد خلص لقاء بيروت التحضيري إلى عدد كبير من التوصيات أعدتها لجان فرعية في ثمانية مجالات أساسية، هي إنقاذ اللغة العربية وحماية التراث والإبداع وحماية الملكية الفكرية ورعاية ثقافة الطفل والشباب والقيم وحوار الثقافات والمحتوى العربي الرقمي على شبكة quot;الإنترنتquot; والسوق الثقافية العربية المشتركة والترجمة.

وبالرغم من أن هذا اللقاء عُقد بالتنسيق بين مؤسسة أهلية وأخرى رسمية (مؤسسة الفكر العربي وquot;الاليكسوquot;)، وشارك فيه ممثلون لمؤسسات ثقافية رسمية في عدد من البلاد العربية، فقد بدا طابعه الأهلي أكثر وضوحاً ليس فقط لأن المثقفين الأفراد وممثلي مؤسسات ثقافية غير رسمية كانوا أكثر عدداً، ولكن لأن الأمانة العامة لمؤسسة الفكر العربي، هي التي حددت منهج العمل فيه، وقامت بالدور الرئيسي في الإعداد له.

ولذلك خلص اللقاء إلى ما يمكن اعتباره quot;أجندةquot; كاملة لقضايا الثقافة العربية، تنطوي على عدد من المشاريع والبرامج العملية، التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق قوية إلى عمل عربي مشترك، إذا تم التركيز عليها. وربما يكون فتحاً جديداً اليوم الذي تقر فيه القمة الثقافية عدداً من هذه المشاريع، التي كان بعضها أكثر من ضروري منذ عقود طويلة.

والدليل على ذلك أن بعض ما ورد ضمن توصيات اللقاء التحضيري للقمة في الأسبوع الماضي يعتبر مشاريع تنفيذية لميثاق الوحدة الثقافية العربية الصادر عام 1964. فعلى سبيل المثال فقط، يعتبر المشروع الخاص بتشجيع إنشاء شركات عربية مشتركة لتوزيع الكتاب وغيره من المنتجات الثقافية برأسمال رسمي وخاص تنفيذاً لما ورد في المادة الثانية من مشروع الوحدة الثقافية بشأن (تيسير انتقال المطبوعات العربية). فلا يمكن لهذا الانتقال أن يتيسر من دون وسائل نقل ضخمة برية وبحرية، يصعب إيجادها من دون شركات تتخصص في توزيع المطبوعات وغيرها من السلع الثقافية، بحيث يتفرغ منتجو هذه السلع بما فيها المطبوعات لعملهم الأساسي وينهضون به، في الوقت الذي يساعدهم ازدياد معدلات توزيعها على التوسع في إنتاجها.

كما أن المشاريع التي اقترحها اللقاء التحضيري في مجال حماية التراث العربي، تعتبر تنفيذاً للمادة الخامسة عشرة في ميثاق الوحدة الثقافية التي نصت على أن تتعاون الدول لإحياء التراث والمحافظة عليه. وقل مثل ذلك عن المشاريع المقترحة لدعم الترجمة التي عنيت بها المادة السادسة عشرة في ميثاق الوحدة الثقافية، التي نصت على أن (تعمل الدول الأعضاء لتنشيط الجهود التي تبذل لترجمة الكتب الأجنبية القديمة والحديثة...).

وجاء مشروع إنشاء هيئة عربية للترجمة ضمن نتائج اللقاء التحضيري وكأنه استجابة متأخرة (بعد 47 عاماً) لما نصت عليه تلك المادة، وهو (تنظيم الجهود التي تُبذل في مجال الترجمة)، لأن دور الهيئة المقترحة هو التنسيق بين مراكز ومؤسسات الترجمة في البلاد العربية، بما يؤدي إلى تنظيم الجهود المبعثرة والمكررة في بعض الأحيان.

وليت دور الهيئة المقترحة يمتد إلى إصدار معاجم وقواميس نوعية جامعة اقتصادية وقانونية وغيرها لتوحيد المصطلحات بحيث تكون هناك كلمة عربية واحدة لترجمة المصطلح الأجنبي، وليست كلمات عدة على النحو الذي نراه الآن في كثير من الحالات منها على سبيل المثال استخدام كلمات عدة مثل الخصخصة والخوصصة وغيرهما لترجمة مصطلح privatization.

وهكذا، فإذا مضت الأمور باتجاه عقد القمة الثقافية الموعودة فعلاً ربما تكون هذه المرة الأولى التي يشارك فيها جزء من المجتمع مشاركة فاعلة في وضع جدول أعمال قمة عربية. فلن يجد وزراء الثقافة خيراً من بعض المشاريع التي خلص إليها اللقاء التحضيري للقمة الثقافية ليرفعوها إلى القادة العرب الذين يمكن أن يعيدوا صوغ وجه الحياة في بلاد الأمة ويصنعوا مستقبلاً عربياً أفضل إذا أقروها وحرصوا على متابعتها.

ففي عصر ثورة المعرفة والمعلومات، وحيث باتت الأفكار الجديدة هي المصدر الأول للتقدم، أصبح للثقافة دور غير مسبوق في صنع مستقبل الأمم. وما أشد حاجة أمتنا اليوم إلى نهضة يمكن للقمة الثقافية أن تساهم في إرساء دعائمها.