شاهدتُ، مثل كثيرٍ من المصريين، فيلمَ «الست» عن أمّ كلثوم، وهو فيلم يعيد إلى السطح سؤالاً قديماً متجدداً: كيف يتحوَّل الصَّوتُ سلطةً، وكيف يصبح الطربُ فعلاً سياسياً من دون خطاب مباشر؟ أستاذة الإثنوموسيقى بجامعة هارفارد، فرجينيا دانيلسون، في كتابها المرجع «صوت مصر: أم كلثوم، الأغنية العربية، والمجتمع المصري في القرن العشرين»، الذي صدر عام 1997 عن دار جامعة شيكاغو الأكاديمية، وصفت أم كلثوم بأنَّها أسهمت في توحيد الذائقة العربيةِ وتسييس السماع دونما خطاب مباشر، وهذه العبارة تحديداً «دونما خطاب مباشر» هي المفتاح الأهم لقراءة الفيلم، وربما لقراءة الظاهرة الكلثومية برمتها، وقد وقع الفيلم أحياناً في فخّ المباشرة على عكس أم كلثوم.

بدايةً، ومن باب رفع الالتباس وتجنب تشويش وسائل التواصل، أرى أنَّ أداء منى زكي لدور السيدة أم كلثوم كان جيداً جداً في حدوده الممكنة، ولا ينبغي تحميل الفيلم أو بطلته أكثرَ مما يحتملان. من السَّذاجة توقع معجزة تمثيلية قادرة على احتواء كيان أسطوري بهذا الحجم. هذه ليست نقطة النقاش هنا. ومع ذلك، استمتعت بالفيلم رغم طوله، ولم أشعر بحاجة إلى مغادرة القاعة، وهو معيار شخصي لا أستهين به.

قبل دخول قاعة السينما، كانَ في ذهني مساران محتملان لحكاية الفيلم:

الأول، فيلم عن أم كلثوم بوصفها حكايةَ وطن: سرد لتحولين كبيرين، من الملكية إلى الجمهورية الناصرية، ومن نخبة ثقافية محدودة إلى جمهور جماهيري واسع، وكل ذلك عبر الصوت وعلاقتها برجال العهدين.

الثاني، فيلم عن أم كلثوم بوصفها حكاية إنسان: امرأة لها انكساراتها ومخاوفها وصلابتها، وصعودها الاجتماعي القاسي في عالم محافظ، تهيمن عليه الذكوريةُ والتدينُ الشكلي والسلطة الأبوية، بما يجعل نجاحَها بهذا الشكل أقرب إلى المعجزة الاجتماعية.

الفيلم لم يخترْ هذا المسار ولا ذاك، بل قدّم خليطاً بينهما أقرب إلى الكولاج. يبدأ بمشهد حفلة باريس الشهيرة بعد هزيمة 1967، ثم يعود عبر «فلاش باك» زمني يرسم حياة أم كلثوم من طفلة في قرى السنبلاوين إلى مطربة عالمية قادرة على جمع الأموال للمجهود الحربي، وتحفيز نساء مصرَ على بيع ذهبهن لإسناد الجيش.

الأسئلة التي يثيرها الفيلم أهم من متعته الجمالية الخالصة. ولست ممن يرون فيه تشويهاً لأم كلثوم أو تمجيداً لها؛ فهو ليس كتاب تاريخ، ولا تأريخاً منهجياً لتلك المرحلة. وربَّما كانت أفلام أخرى ستغويني أكثر، لو ركَّزت على حكاية واحدة مكثفة: غرام أحمد رامي، أو صراع القصبجي مع خطيب الست الذي أشاعت الصحف أنه سيمنعها من الغناء. كل واحدة من هذه القصص تصلح فيلماً كاملاً. لكن الفيلم رغم تطرقه للقصبجي ورامي لم يذكر علاقةَ الست بزكريا أحمد أو السنباطي أو الموجي أو حتى عبد الوهاب، هذا إذا أردت أن تعدد ما ينقص الفيلم، إذا كنت ممن يتصيَّدون الأخطاء. ولكن ربَّما سيطيل هذا التفصيل الفيلم.

صُنّاع الفيلم اختاروا رصَّ مشاهدَ أرشيفية تاريخية إلى جوار لحظات شخصية حميمة تخص أم كلثوم وعلاقتها بأهلها ووالدها، دون تعميق كافٍ في أي اتجاه. هنا، في رأيي، يكمن فشل التجاور البصري كأداة سردية. فالتجاور، حين يُستخدم بوعي جمالي، يمكنه أن يقول ما لا يُقال مباشرة. أمَّا هنا، فبدا أقربَ إلى تكديس مشاهدَ لا تولّد معنى ثالثاً، ولا تصنع توتراً كافياً بين الخاص والعام، بين الصوت والوطن، بين المرأة والتاريخ.

النتيجة أن الفيلم يتركنا أمام سردٍ مجزأ، جميلٍ أحياناً، لكنَّه متردد في اتخاذ موقف تحليلي حاسم، لا تجاه أم كلثوم ولا تجاه الوطن الذي صارت صوته. وربَّما يعكس هذا التردد صعوبة القبض على العلاقة المعقدة بين الطرب والسلطة من دون الوقوع في المباشرة أو الخطابة.

أنا لست ناقداً سينمائياً، بل أستاذ للعلوم السياسية بمعناها الواسع، الذي يشمل الاجتماع والثقافة والرمز. ومن هذا المنظور، تبدو أم كلثوم حالة نموذجية لفهم السلطة الرمزية: سلطة لا تُمارَس بالقهر، ولا تُفرض بالقانون، بل تُمنَح بالإنصات، وتُرسَّخ بالاعتياد، وتُعاد إنتاجها عبر الطقس.

هنا تتجلَّى أهمية قراءة دانيالسون للطرب. فهي لا تراه حالة وجدانية فردية، بل نظام تفاعلي يضم الصوت والجمهور والزمن والسياق السياسي. الطرب عندها ممارسة اجتماعية تنطوي على تفاوض دقيق حول السلطة. أم كلثوم لا تفرض الأداء، لكنَّها تتحكم في شروطه: متى تعيد، كيف تطيل، وأين تبلغ الذروة. الجمهور يمنح الشرعية عبر الاستجابة لا عبر الصمت.

التكرار، مثلاً، ليس حشواً بل تعميق للتجربة. حاول الفيلم محاكاة هذا التكرار بصرياً عبر إعادة مشهد حرق المذكرات وسقوط رماد السيجارة، لكنه بدا تكراراً زائداً يمكن حذفه دون أن يتأثر المعنى.

في كتابها، تشرح دانيالسون كيف أدارت أم كلثوم الطرب بوصفه إدارة للزمن: إطالة المقاطع، تنويع الإعادة، والتلاعب المقامي، بما يضع الجمهور في حالة انتظار دائم. هذه السيطرة على الزمن ليست موسيقية فقط، بل سياسية بالمعنى الثقافي؛ فمن يملك الزمن الجمعي يملك الوجدان الجمعي. الفيلم يلمح إلى هذه الفكرة، لكنَّه لا يجعلها محوراً، ولا يترك للمشاهد مساحة كافية لاستخلاصها دون تصريح.

الطرب في التجربة الكلثومية لم يكن ترفيهاً ولا هروباً من الواقع، بل كان تنظيماً للوجدان الجماعي. صوت أم كلثوم علّق الزمن، أعاد تشكيل المشاعر، ووحّد جمهوراً متناقض الطبقات والتوجهات والبلدان. لسنا هنا أمام دعاية سياسية مباشرة، بل أمام تهيئة وجدانية تجعل الجماعة مستعدة لفكرة الوطن، للصبر، للتحمل، وحتى لتلقي الهزيمة. هذه هي السياسة في معناها الثقافي العميق، وهي الفكرة التي لم ينجح الفيلم تماماً في إيصالها.

ثيودور أدورنو حول «صناعة الثقافة»، يرى أنَّ الموسيقى الجماهيرية قد تتحوَّل أداةً للهيمنة عبر التكرار وصناعة الامتثال. غير أنَّ تجربة أم كلثوم لا تنطبق بالكامل على هذا النموذج؛ فهي لم تفرغِ السماع من معناه، بل حمّلته تركيزاً وانتباهاً عاليين. ومع ذلك، يذكّرنا أدورنو بأن الجمال ليس بريئاً دائماً.

كذلك يقدّم بيير بورديو مفهومَ السلطة الرمزية وحكم الذوق، حيث يصبح تعريف «الجميل» شكلاً من أشكال السيطرة غير المرئية. أم كلثوم، بهذا المعنى، لم تكن مطربة عظيمة فقط، بل مؤسسة لإعادة توزيع الذوق، جعلت القصيدةَ الفصحى جماهيرية، والسماع طقساً جمعياً مهيباً. هذه ليست سلطة الدولة، بل سلطة الإجماع، وهي الأخطر.

فيلم «الست» يقترب من هذه الفكرة لكنَّه لا يغوص فيها بما يكفي، فقط يكتفي بالإشارة، ولا ينجح دائماً في تحويل التجاور بين المشاهد إلى معنى يُفهم دون مباشرة. ومع ذلك، تبقى قيمتُه في إعادة فتح السؤال: كيف يحكم الصوت دون أن يأمر؟ وكيف يصبح الطربُ سياسة بلا شعارات؟

في زمن السوشيال وعالم الصورة يبقى أخطرُ أنواع السلطة هو ذلك الذي يمرُّ عبر الأذن، ويستقرُّ في القلب، ويبدو لنا في النهاية وكأنَّه اختيارنا الحر، وهذا ما لم يستطعِ الفيلم أن يمسكَ بخيوطه كلها.