راجح الخوري

لا بأس إذا قلنا إن لبنان يبدو في هذه الأيام، بلداً يتعرّق إحراجاً وخجلاً من الناقورة الى النهر الكبير.
طبعاً هناك كثير من الفضائح الكارثية، التي تدعو الى هذا التعرق وتفرض الغرق في الخجل. ولكننا لا نتحدث هنا عن السياسة بل عن الجواسيس والعملاء للعدو الاسرائيلي.
بالتأكيد نحن في بلد ديموقراطي ولو نظرياً، وهذا يفرض علينا ان نتذكر مع كل إعلان عن إلقاء القبض على أي لبناني، بتهمة التجسّس انه في خانة الاتهام وان المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وإذا كانت ضرورات التحقيق، تفرض السريّة بهدف الوصول الى إلقاء القبض على كل افراد الشبكة أو الشبكات، فإن ضرورات المنطق والعدالة والاخلاق تفرض على المرء عدم سحب مسؤولية تورط الفرد على الجماعة، وعدم أخذ الجماعة بجريرة هذا الفرد... quot;ولا تزر وازرة وزر أخرىquot;.
نقول هذا بعد العاصفة التي أثارها الاعلان عن توقيف العميد المتقاعد فايز كرم، الذي كان يحتل موقعاً متقدماً في quot;التيار الوطني الحرquot;. ونحرص على القول ان هذا الأمر لا يقبل أي توظيف سياسي.


❒ ❒ ❒

ليس المثير أن تصل سلسلة الاتهام والتوقيف الى مراتب أو رتب عليا، ولا الاثارة ان هذه التوقيفات والاتهامات أصابت أحياناً عسكريين سابقين يفترض انهم تربوا على العقيدة الوطنية، التي تنظر الى اسرائيل كعدو وجودي للبنان والعرب، الأشد إثارة للذهول، هو هذا العدد الكبير والمتزايد للمتهمين والموقوفين بتهمة التعامل مع العدو الاسرائيلي، ولكأن لبنان سيقتحم بلا منازع موسوعة غينيس للعملاء والجواسيس، وهو فعلاً ما يبعث على المرارة وعلى التعرق خجلاً وحرجاً من الناقورة الى النهر الكبير.
ثمة ما يدعو الى التساؤل: هل هي الجينات في تكوين الانسان اللبناني من كل الطوائف والمذاهب، التي توقعه في هذه التجربة البغيضة... قطعاً لا!
وهل هي الحاجة المادية؟ قطعاً لا، قياساً بيسر بعض المعتقلين، وقياساً ببخل العدو، الذي استطاع ان يشتري العملاء بحفنة من الدولارات!
إذاً لماذا ينساق هذا العدد الكبير من اللبنانيين الى العمالة والتجسّس؟
تحتاج هذه الظاهرة المخجلة، الى تأمل هادئ وعميق بحثاً عن الأسباب والدوافع التي جعلت كل هؤلاء يقعون في حبائل اسرائيل. ومن الضروري بالتأكيد العمل لاكتشاف هذه الأسباب، على الأقل لمنع هذه الظاهرة واستئصال دوافعها.
هل هي الحرب الأهلية الطائفية والمذهبية الطويلة، التي غرق فيها لبنان قرابة عقدين ولم تنته مفاعيلها النفسية وquot;الثقافيةquot; بعد؟
هل أعوام العار بين شرقية وغربية، وسقوط أكثر من 200 الف قتيل و750 ألف جريح، ودخول الاحتلال الاسرائيلي لبنان، من الأسباب التي أدت الى تفاقم ظاهرة العملاء؟
وما هو السرّ في ان العملاء يأتون من معظم الطوائف والمذاهب تقريباً؟
إن أسئلة من هذا النوع، لا تقبل أجوبة سطحية ومستعجلة، لأن هناك ما يمكن اعتباره اختلالاً في ثقافة المواطنة، ربما نتيجة الاختلاف المزمن بين اللبنانيين على الوطن وهويته. وربما لأن أيام العبث الدموي المجنون، أيام الخطف على الهوية والقتل على الهوية والسحل على الهوية وتقطيع الجثث على الهوية، فتحت معابر السقوط أمام هذا العدد المتزايد من الضعفاء، الذين جنّدهم العدو لمزيد من فصول المذبحة المفتوحة بيننا.
لا يكفي ان نغرق في الذهول والإثارة أمام هذا المسلسل المخجل من اصطياد العملاء. ولا يكفي ان نصفق للأجهزة الأمنية التي تجعل من لبنان أرض quot;سافاري الجواسيسquot; كما قلنا سابقاً.


❒ ❒ ❒

لا يكفي كل هذا. يفترض مثلاً، الاستماع جيداً الى الرئيس ميشال سليمان وهو يتحدث عن الأهمية القصوى لتحصين الثقافة الوطنية بالحوار، ولترسيخ قاعدة المواطنة الصلبة بالتفاهم بين القيادات اللبنانية على الوطن والهوية والدور والسيادة وقيم الوجود اللبناني إذا صح التعبير.
واذا كان رئيس الجمهورية يمارس دوره كسقف للشرعية وحام للدستور، على قاعدة إرساء قواعد صلبة لحوار منفتح وايجابي وهادف بين الافرقاء اللبنانيين، الذين يتولّون للمرة الاولى، بعد quot;اتفاق الطائفquot; إدارة البلاد وترتيب العلاقات والتفاهمات في ما بينهم، كعائلة تحتاج الى رؤية موحدة تحمي البيت، فإن ذلك هو المدخل الضروري لتنقية الثقافة الوطنية من شوائب أعوام الحرب الأهلية المدمّرة.
ولأن الرئيس سليمان يدرك أهمية هذا الأمر، الذي يرسي اساس الاجماع على الوحدة الوطنية وعلى معناها وأهدافها ووظائفها، فإنه لم يتوان في كل مناسبة، وآخرها المحادثات في القمة الثلاثية مع خادم الحرمين الشريفين والرئيس بشار الأسد، عن دعوة الاشقاء العرب الى دعم هذا التوجه، الذي يؤسس فعلاً لقيام عمارة الثقافة الوطنية، بما يقفل الأبواب نهائياً على الانقسامات والصراعات ورياح العدو الاسرائيلي، التي عصفت بكثيرين من ضعفاء النفوس في هذا البلد المعذّب!