محمد بن عيسى الكنعان

كشفت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية قبل أيام عن بعض ملامح الخطة الأمريكية الخاصة ب(قيام دولة فلسطينية)، وذلك من خلال سعي إدارة الرئيس باراك أوباما للتوصل لإطار اتفاق سلام دائم بين.....

..... الإسرائيليين والفلسطينيين خلال عام بعد انطلاق المفاوضات المباشرة، ينتهي بإعلان هذه الدولة، على أن يتم تطبيق بنود الاتفاق بشكل تدريجي في بحر عشر سنوات. لكن السؤال الذي يفرض نفسه وسط كل ما يجري حول هذه الدولة الحلم، التي تحولت إلى مسلسل سياسي متعدد الحلقات هو: (ما كينونة هذه الدولة؟) لأن المتابع لهذا الملف الضخم منذ مؤتمر مدريد عام 1991م الذي رعته الولايات المتحدة لبحث الصراع العربي الإسرائيلي وحتى استئناف المفاوضات المباشرة العام الحالي 2010م، سيلحظ في أفق قضية العرب المركزية (ثلاثة احتمالات) تُعبر عن كينونة الدولة الفلسطينية المنشودة، وهي احتمالات مرتبطة بشكل رئيس بالرؤية الصهيونية تحت مظلة التفوق الإسرائيلي والدعم الأمريكي هذا من جهة، ومن جهة أخرى غياب الإجماع العربي حول الرؤية المحددة لهذه الدولة نتيجة الضعف العربي والانقسام الفلسطيني.

أول هذه الاحتمالات أن تكون الدولة الفلسطينية (دولة ذات سيادة كاملة) بمعنى دولة تتمتع بكل مكونات الدولة الحديثة، والاحتمال الثاني (دولة مؤقتة غير مستقرة) بمعنى أن تأخذ صفة الدولة نظرياً من خلال بناء مؤسسات الدولة على بقايا الأراضي الفلسطينية التي لم يفتك بها سرطان الاستيطان حتى يتم اكتمالها ومن ثم تفعيلها في إطار نظام سياسي متكامل، وهو ما تزعم حكومة سلام فياض في رام الله أنها تسعى إليه عن طريق بناء هذه المؤسسات بشكل بطيء وتدريجي حتى تفاجئ العالم بإعلان نفسها دولة مكتملة الأنظمة. أما الاحتمال الثالث فهو (دولة منزوعة السيادة) أي مجرد حكم ذاتي داخل إطار دولة إسرائيل كما هو معمول به الآن بواقع كيان السلطة الفلسطينية.

بتقديري أن الاحتمال الأول (بعيد المنال) قياساً بما جرى ويجري عبر محطات القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور اللعين عام 1917م وحتى إعلان السلطة الفلسطينية عام 1993م، والثاني (مجرد وهم) لأن إسرائيل تعرف بكل ما يستجد على خريطة السلطة الفلسطينية، ولن ترضى بسياسة فرض الأمر الواقع أو أية تطورات قد تفضي إلى إعلان دولة من طرف واحد. لذلك فالاحتمال الثالث هو الأقرب لحال الصراع العربي الإسرائيلي، والأكثر منطقية بحدوثه على الساحة الفلسطينية استناداً إلى حقائق مشاهدة على الأرض وشهادات تاريخية تؤكد أن (الدولة الفلسطينية) ستبقى (حكماً ذاتياً) أي دولة منزوعة السيادة. وهو المسلسل الأمريكي الذي يتم إخراجه برؤية إسرائيلية واضحة تتداخل فيها المصالح الصهيونية بالظروف الدولية، وهذا يبدو مثبتاً في طريقة التعامل الأمريكي مع ملف إعلان دولة مستقلة للفلسطينيين، وهي الطريقة التي شهدت تحولاً كبيراً في مسارها السياسي من رفض هذه الدولة إلى تأييدها، ولكنه تأييد ضبابي غير واضح المعالم لكسب الوقت لصالح إسرائيل من أجل تغيير الحقائق على الأرض وتهويد الأراضي الفلسطينية بالكامل، ومن ثم تحويل (الوجود الفلسطيني) في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ما يشبه المستعمرات القائمة كجزر منعزلة عن بعضها، وهذا ليس رجماً في الغيب إنما تاريخ مثبت بحقائق جغرافية، فعندما أقرت هيئة الأمم المتحدة تقسيم فلسطين حسب القرار (181) إلى دولتين (عبرية وعربية) عام 1947م، كان نصيب الدولة العربية الفلسطينية ما نسبته (45%) من مساحة فلسطين التاريخية. غير أن هذه النسبة تقلصت بعد انتصار إسرائيل في حرب 1967م، ثم تقلصت إلى (22%) عقب إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عام 2001م إقرار السلام بناء على إقامة دولتين يهودية وأخرى فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967م. ومع تزايد بؤر الاستيطان خلال مفاوضات السلام الفاشلة فإن الدولة الفلسطينية (المنشودة) ستقام على جزء من أرض فلسطين التاريخية لا يتجاوز نسبة (9 %)، خاصة أن الاستيطان استمر تزايده حتى في داخل الضفة وغزة.

مما سبق يمكن أن نفهم هذا المسلسل الأمريكي (الدولة الفلسطينية بلا نهاية)، الذي يتم إخراجه برؤية إسرائيلية تعتمد السيناريو الصهيوني، وتراعي الظروف الدولية بدهاء، وهو ما أشرت إليه بشأن تحول التعامل الأمريكي للدولة الفلسطينية من الرفض إلى التأييد، وقد طار بهذا التأييد المطبعون العرب والحالمون بالسلام عندما أعلنه جورج بوش في ذلك الوقت دون الوعي بأن تلك المرحلة استدعت ذلك، وعلى ذات السياق تمضي إدارة أوباما، أما النتائج الحقيقية فلن تتم على أرض الواقع إلا بكشف دهاليز الإدارة الأمريكية وخفايا سياستها، فبالأمس قال جيمي كارتر عن (الدولة الفلسطينية) في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 1976م: (الانتحار أهون عليّ من فعل أي عمل يضر بإسرائيل)، وتبعه رونالد ريغان إبان رئاسته الذي عارض فكرة الدولة الفلسطينية، مؤكداً أنه لن يقبل بأن تكون إسرائيل عرضة للمدفعية العربية بأي حال، بل قال: الرجوع إلى حدود عام 1967م غير وارد أبداً ولن يتم تفكيك أية مستوطنة. فما الذي تغيّر؟ حتى ينقلب الموقف الأمريكي من رفض دولة للفلسطينيين إلى إعلان بوش بها عام 2001م ووعده بإقامتها عام 2005م، ثم إرجائها إلى عام 2008م، واليوم يكرر الرئيس أوباما ذات الموقف كما كشفت ذلك الصحيفة الإسرائيلية. الذي تغير هي الظروف القائمة على أرض فلسطين بسبب تمسك الفلسطينيين بخيار المقاومة إلى جانب التفاوض، خصوصاً أن وعد بوش (التخديري) جاء عقب انتفاضتين (الحجر) عام 1987م و(الأقصى) عام 1988م، اللتين أسهمتا في تغيير العقلية العربية بالنسبة للنضال الفلسطيني بشكل عام، كونه اعتمد الفكرة الإسلامية التي تتعامل بأدوات ومفاهيم مختلفة عن الرؤية القومية سواءً وطنية أو يسارية. لذلك كان لابد من الوعد بدولة مستقلة تعزز موقف دعاة السلام والتفاوض، ولكن ضمن مفاوضات مباشرة تتفق مع الرغبات الإسرائيلية المحددة بمطالب تعجيزية كالاعتراف ب(يهودية دولة إسرائيل)، الأمر الذي يلغي كل المطالب المصيرية للشعب الفلسطيني (العودة والحدود والقدس) ما يُعيد القضية إلى المربع الأول ويكشف حقيقة الدولة الفلسطينية المزعومة أنها مجرد (حكم ذاتي).