حمد الماجد

عنوان المقال ليس من عندي وإنما وصف تفوه به أحد قيادات الحركة الإسلامية في الشمال الأفريقي علق به في أمسية لندنية خاصة على وصف أحد الطلاب السعوديين لغازي laquo;بالعلمانيraquo;. قال له: laquo;يا رجل لو رأيت علمانيينا الحقيقيين الذين يسخرون من الشعائر الإسلامية ويتندرون بشخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) بل ويسبون الذات الإلهية والقرآن، وقارنتهم بمن تصفونهم بالعلمانيين وهم يصلون ويصومون ويحجون، لغيرتم نظرتكمraquo;.

أنا أدرك جيدا يا سادة أن الصلاة والصيام وسائر الفرائض والعبادات لا تمنح صاحبها تفويضا كتفويض أصحاب الشجرة؛ laquo;اعملوا ما شئتم قد غفرت لكمraquo;، لكنها بالتأكيد تمنحنا فضاء رحبا في الأخذ بأقصى درجات إحسان الظن، وتأويل ما يمكن تأويله من الأفكار والرؤى والاجتهادات، كما تعطينا فرصة لأن نغمس درن الأخطاء والخطايا في ينبوع الخير والإيجابيات وما ينسب للإنسان من أعمال صالحة، طبعا مع الاحتفاظ بحق التخطئة والتقويم، والإشارة إلى مواضع الخلل.

لقد عتب علي عدد من الذين قرأوا سلسلة المقالات التي كتبتها عن غازي القصيبي، رحمه الله، بعيد وفاته، بأنني حين سلطت الضوء على وقائع وأحداث حقيقية تؤكد الجوانب الإيمانية في حياته، بدا الأمر لهؤلاء وكأني أتكلم عن رجل في ورع الزهري أو إيمان عطاء أو تقوى الجنيد. ويقولون إن الموضوعية والتوازن في الطرح تفرض أن أتعرض أيضا بالنقد لعطاء القصيبي الفكري والأدبي. وأود هنا أن أؤكد أن روايات القصيبي وأشعاره ومقالاته وأفكاره ورؤاه، صوابها وخطؤها، مبثوثة يطلع عليها القاصي والداني، بل إن بعض كتبه ورواياته من أكثر الكتب مبيعا. ولهذا تعرض الكثير لنقدها وتمحيصها وتوضيح مواضع الخلل فيها، ثم إنه بعد النزالات الفكرية مطلع التسعينات، التي وصل الضرب فيها إلى تحت الحزام، علق في أفكار شريحة كبيرة من الجمهور أحكام وأوصاف قاسية في حق الرجل، مما يستدعي تسليط الضوء على جوانب أخرى مضيئة في سيرة القصيبي من أحداث ووقائع لا يعرفها كثير من الناس. أردنا أن نستمطر بها دعوات تنفعه بعد مماته، هذا إضافة إلى أن تسليط الضوء على هذه الصور المضيئة في شخصية غازي يمنح شيئا من التوازن في الحكم للرجل أو عليه.

نحن يا سادة لا نريد أكثر من العدل في القول أو التقييم أو الحكم؛ laquo;وإذا قلتم فاعدلواraquo;. وما أجمل الرجل الذهبي اسما ومسمى، أقصد الإمام الذهبي في ميزانه الذهبي laquo;ميزان الاعتدالraquo;؛ تجده يتكلم مثلا عن أحد الأعلام الذين عرفت عنهم laquo;طوامraquo; في المسائل العقدية لكن له قدم سبق في الجهاد والذب عن بيضة الإسلام واغبرت قدماه في معارك الفتوح، فيقول الإمام الذهبي: laquo;فلعل الله بواسع رحمته يطلع على بحر حسناته فيغمس فيها وافر سيئاته فيغفر الله لهraquo;.

نحن في أمس الحاجة إلى هذه الروح الإيجابية النقية في تقييم الناس والأعمال.. الروح المشفقة على المسلم، أي مسلم، التي تتمنى لكل مسلم الخير وترجو له المغفرة والجنة، الروح التي كالنحلة لا تقع إلا على أطايب الزهور، فتبرز ما فيه من خير وتكبره، وتعذر ما تستطيع أن تعذر، وتجتهد في التأويل والتبرير الحسن ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، خاصة أن مساحة الرؤى والأفكار والاجتهادات التي تنسب إلى غازي وغير غازي في الغالب الأعم ليست في خانة القطعيات العقدية ولا تمس أصول الدين وثوابته، ولو غربلتها لوجدتها في الغالب في المنطقة الرمادية التي يصعب الفصل فيها برأي جازم حاسم.

المقالة القادمة ربما تكون الأخيرة عن غازي، وسأتطرق فيها إلى أحداث خفيفة ظريفة وإخوانيات تنشر لأول مرة.