يوسف أبا الخيل

للمرحوم الدكتور غازي القصيبي كتاب صغير الحجم قليل الصفحات, لكنه جليل القدر,عظيم الفائدة, غزير المادة, ضمَّنه عدداً من الأحاديث النبوية المتواترة التي تُعنى بالتشريع لجوانب من صميم شواغل الاجتماع البشري المعاصر, شواغل لا زلنا نحن المسلمين نخب ونضع حول شرعيتها حتى الساعة, رغم أن الإسلام بنصوصه المؤسسة قد حدد فصل الخطاب فيها منذ ما ينيف على ألف وأربعمائة سنة. سمى المؤلف كتابه quot;ثورة في السنة النبويةquot;, وكنت سأجعل هذا الاسم عنواناً للمقال؛ لكن لما كنت سآتي على نصوص قرآنية, بخلاف ما سأستصحبه من نص/نصوص نبوية جاد بها الكتاب, فقد آثرت أن أستعير نصف عنوانه لعنونة هذا المقال.


الأحاديث التي ضمَّنها المرحوم الدكتور غازي القصيبي دفتي كتابه, معروفة ومقروءة لفئام كثيرة من المسلمين, قديما وحديثا, إلا أن ترهات الفكر الديني الذي تراكم في ظل صراع أهل quot;الملل والنحلquot;؛ فقهاً وعقيدة, والذي غلب على المسلمين فاستبدلوه بالنصوص المؤسِّسة, ظل هو الحاكم على موضعتهم لتلك المسائل: تنظيراً وإفتاءً وتدريسا, ومن ثم تحول(= الفكر الديني) إلى نسق ثقافي آخذ بحجز الناس عن تبصر الحق ونشدان الفضائل حتى اللحظة, وإلى أن يأذن الله بفرج من عنده.

لنأخذ مسألة شائكة كمسألة التضخم السكاني لدى العالم الثالث, والعالم الإسلامي منه بشكل خاص, والذي يقترب-أو يكاد- من تخوم القنبلة الموقوتة, ما أن يقرع كاتب من هنا أو مثقف من هناك جرس الإنذار حوله داعياً إلى مواجهة حتمياته بquot;تنظيم النسلquot;, حتى تبتدره جحافل السلفية, سواء أكانت تقليدية أم جهادية حركية, تشويهاً وتقريعاً وتوهيناً واتهاماً بquot;التغريب!quot;, وأنه والغ في مشروع ( تغريبي!)هدفه إتيان البنيان الإسلامي من القواعد. ولربما انتابت المسلم البسيط الذي يعايش غثاءquot;الصحوةquot; المفاجأةُ عندما يتناهى إلى سمعه أن تنظيم النسل مفهوم إسلامي أصيل, وليس مفهوماًquot;غربياًquot;؛ كما يروجه المسكونون برهاب الغرب, وما أكثرهم بين أظهرنا اليوم ممن هم كالمنبت, لا أرضاً قطعوا ولا أرضاً أبقوا. ففي صحيح البخاري كما في غيره عن ابن محيريز أنه قال quot;دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل, قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبياً من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل, فأردنا أن نعزل, وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله, فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا, ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنةquot;. وإذا رفع التقليديون من بقايا الصحوة ممن اقتفوا أثر الإخوان المسلمين في الدعوة إلى تكثير النسل(الإسلامي!) عقيرتهم محتجين بأن ذلك السماح مقصور على حال الحرب, فدونهم الروايات الأخرى التي تطلق الحكم ليكون عاماً في زمن الحرب كما في زمن السلم. فعن جابر بن عبدالله قالquot; كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلمquot;. وفي رواية أخرى عنه quot;كنا نعزل والقرآن ينزلquot;. ورواية أخرى عنه أيضاًquot; كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزلquot;. وفي رواية أخرى عند مسلمquot;كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهناquot;. ههنا إذاً أدلة صحيحة صريحة تجيز, إن لم تكن ترغب في تنظيم النسل, فما العزل في حقيقة ما يترتب عليه إلا تنظيم للنسل. ولا إخال هذا التنظيم للنسل من قبل الصحابة؛ وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه, إلا مراعاة لجوانب عديدة لا تستثني منها الجوانب الاجتماعية أو الاقتصادية أو كليهما, إذ النصوص, ونصوص المعاملات منها على وجه الخصوص, لا بد وأن لها مقاصد تتغياها, وإلا أصبحت تعمل في فراغ تجل عنه الشرائع السماوية.

ويعلق المرحوم الدكتور غازي القصيبي في كتابه السابق الذكر على تلك الآثار بقوله:quot;... ونجد في الجانب الآخر من الصورة أناساً لا يستطيعون القيام بعبء ولد واحد, ومع ذلك فهم حريصون على إنجاب الحد الأقصى من الأولاد لأسباب أنانية تتعلق بمصلحتهم هم لا بمصلحة الأولاد. ويستوي بعدُ أن يكون التباهي بالفحولة أو الرغبة في الحصول على أكبر عدد ممكن من العمال( بالمجان!). هؤلاء آباء ينجبون الأولاد ثم يتركونهم بعد إنجابهم بلا تعليم وبلا رعاية صحية وبلا غذاء عرضة للمرض وفريسة للجوع. يولد الواحد من هؤلاء الأطفال ليواجه مستقبلاً مظلما, إن سلم من أمراض الطفولة لم يسلم من أمراض الصبا, وإن سلم من أمراض الأخيرة استقبلته أمراض الرجولة, ثم تلقته مشكلة البطالة في مجتمعات لا تضمن لمواطنيها عيش الكفاف. إن النمو السكاني الهائل في الدول النامية هو بمثابة قنبلة متفجرة تحمل معها خطر المجاعات التي لا تبقي ولا تذرquot;. ثم يضيفquot; أما الذين يزعمون أن الإسلام يمنع تنظيم النسل فليس لي إلا أن أطلب منهم أن يعودوا إلى قراءة الأحاديث النبوية الشريفة في موضع العزل بلا أفكار مسبقةquot;.

أقول قولي هذا بعد أن أقر وأنا بكامل قواي العقلية والفكرية أن أسباب مصائب المسلمين اليوم تكاد محصورة بquot;الأفكار المسبقةquot;, أو ما أسماها المرحوم الجابري بquot; الأفكار المتلقاةquot;, حين التعاطي مع النصوص الدينية, قرآناً كانت أم سنة متواترة. والأفكار المسبقة في المجال الديني هي أفكار أيديولوجية دشنها الفكر الدينيquot; الإسلاميquot;, الذي لم يفعل شيئاً أكثر من تلوينه النصوص الأولى ,المنفتحة على كل الاحتمالات التقدمية, بألوان الطيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمللي والنحلي (= نسبة للملل والنحل), الذي كان يعيش فيها إبان تدوينه, فتحول النص المؤسس بفضل ذلك التلوين من داعم ومحفز على الإبداع, إلى مشرعن للدعة والسكون والتخلف, واكتفاء أتباعه بدور المستهلكين التابعين الذين يحسبون كل صيحة عليهم!.

عندما تستعرض, مثلاً, ما يقرره النص المؤسس من (أزلية وأبدية) الاختلاف بين الناس, سواءً أكان في الأديان أم في المذاهب, أم في الفهوم والآراء والاستنباطات, أم في القراءات, فتستصحب لذلك نصوصاً قرآنية كريمة من قبيل قوله تعالىquot;ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم(= الضمير هنا يعود إلى الاختلاف) ,إلخquot;. وكذلكquot; ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينquot;. وأيضاً قوله تعالى:quot; لكل منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدةquot;, أقول عندما تستصحب تلك النصوص ونظائرها التي تشرعن لاختلاف أبدي لا ينفيه تقارب أو بحث عن مشتركات, لا يجد من زادهم الأفكار المتلقاة ما يدفعون به ضيق عطنهم وتبرمهم مما جبل الله الخلق عليه سوى الاستنجاد بتراثquot;عقديquot; كتب في سياق صراع سياسي تعالى بالسياسة إلى تخوم المقدس. إنهم حينها لا يجدون إلا أن يستدركوا على الله تعالى وتقدس بالقول إن ههنا فرْقاً بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. وحين يُعمِلون هذه المقولة في مجال دفع أبدية الاختلاف, فإنهم يقصدون أنه تعالى خلق الخلق وفق جبلة خِلقية هي الاختلاف (=إرادة كونية), بينما يريد سبحانه وتعالى منهم من جهة أخرى أن يكونوا متحدين ومتفقين على رأي واحد( = إرادة شرعية), وفي هذا القول ما فيه من القفز على المعقول, ناهيك عن المنقول, بالإضافة إلى ما فيه من تأل, وربما سوء أدب مع الله تعالى, فهل من المعقول أن يُجوِّز الإنسان على خالقه تعالى أن يخلق خلقه مجبولين على الاختلاف, ثم يريد منهم شيئاً آخر بخلاف ما جبلهم عليه تعالى وتقدس؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.