إسحاق الشيخ يعقوب

تنقّل في عدة وزارات... وهو في كنف اربعة ملوك... تناوبوا على حكم شبه جزيرة العرب.. ثلاثة منهم رحلوا في حياته.. ورحل هو في حياة رابعهم...
أمثقّف سلطة هو؟!
بلى انه مثقف السلطة!! الا انه ليس مثقف سلطة أمّعة كالذين يغُصّون بلقمة اسيادهم... هو مثقف عضوي... ومثقّف غير عضوي.. ايمكن ان يكون مثقف السلطة مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشي؟!
انه مثقف يعرف كيف يُدير لغة الكلمة... ويثير ضجيجها في نفس من بيده سلطة القرار... بلغة واثقة بالصدق والاخلاص.. للحاكم... ام للوطن؟! الحكام يرحلون ويبقى الوطن.. وكان بسيطاً وهو ما يشير الى صدقه.. وكان متواضعاً.. وهو ما يُشير الى اخلاصه.. وكان ودوداً وهو ما يشير الى سماحة روحه.. وكان مثيراً في حضوره.. وهو ما يشير الى جاذبيّة شخصيته.. وكانت له سجيّة سهلة ممتنعة.. شامخة محاورة ومناورة... تأخذه ولا يأخذ بها.. حتى وهو في حضور ملك... اججه وشاة مثقفي السلطة ضد مثقفي السلطة!! انهم ينهشون لحوم بعضهم البعض حسداً.. ويهبطون بأنفسهم.. هو ما كان منهم بالرغم من انه من سرب مثقفي السلطة.. الا انه كان يغرّد خارج سرب السلطة... كيف له ان يكون في سرب السلطة... ويُغرِّد خارج سرب السلطة؟! انه حالة استثنائية في سرب السلطة!!
ما رأيته الا قلقاً.. وما سمعته الا قلقاً.. وما تجسدتُ دواوينه شعراً الا ووجدته قلقاً... حتى وهو ماسك دفة ادارة وزارته تراه قلقاً..
ان عظمة الرُّبانّية في قلقها... وما رأيت ربّاناً جهبذاً ماسكاً بدفة سفينته يمخر عباب البحار.. إلا وهو قلق.. الخلق موهبة الابداع في القلق... وكانت المواهب جميعها تستوي وتتألق في صهاريج القلق!!
فالطيور قلقة في اعشاشها.. واذا فقدت القلق... تهاوت اجنحتها وفقدت حالة الطيران صعوداً في الفضاء!!
والقصائد الجميلة لا تستوي وتتناضج الا في ذروة القلق!!
أنظرُ الى عينيه الأوّابتين في الحياة... فأراهما تضجُّان بالقلق... فاتصور قامته الضخمة والطويلة تضجُ في عينيه بالقلق!!
احد التافهين منا... اجل منا نحن معشر اليسار... يتأفف عندما نأتي على اسمه كقامة ادبية وفكرية وتنويرية وطنية... فيقول: اتركوه انه مثقف بلاط السلطة... هو لا يدرك ان المثقف العضوي يمكن ان يؤدي دوراً ايجابياً وطنياً تحت كنف حاكمية السلطة... في وقت من الزمن زرته في منزله في البحرين برفقة الاديب النابه الدكتور راشد المبارك اطال الله عمره... وكان يشع بالحياة والشعر والأمل.. وما كان احد منا يدري ان أجل الموت يذرع امعاءه.. ويتحين فرصة خطف روحه...
وكان وهاّج الحضور.. وثّاب اللّمح.. صادق الطويّة.. واثق النفس.. وكانت الصحف البريطانية يومها تصفه هازئة: بوزير الهواء.. بعد ان عُيّن وزيراً للزراعة.. فأي زراعة في السعودية.. تستحق صولجان وزير ووزارة؟! وكان يبتسم ويقول.. بل قالوا وزير المجاري laquo;والبواليعraquo; أكان يدري انه الرجل المناسب في المكان المناسب.. داخل سلطة القرار ام خارج سلطة القرار؟!
وكان السؤال يهجس بي امامه.. فاغور عن سؤال يهاجس نفسي.. ملعون هذا الموت اختطفه قبل ان افضي بسؤالي اليه!!
رحم الله غازي القصيبي واسكنه فسيح جناته.. وألهم اهله واصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان..
واحسب السؤال في رحيله يرتفع شاهقاً بين محُبيه ومُريديه: (أشهقة الموت في جلل الحياة.. ام شهقة الحياة في جلل الموت؟!) وكأني اسمع نحيب شقيق روحه ورفيق دربه في جميل الشعر عبدالرحمن رفيع.. الذي اليه بهذه المناسبة الحزينة اهمس بمحبة أحرّ تعازيّ القلبيّة والوجدانية!!