الخرطوم - عابدين سلامة
مع انتهاء أيام الاستفتاء بدأ الشعب السوداني يتهيأ لعملية جراحية كبيرة خلقت إرباكاً ملحوظاً أطلّ بوجوهه السلبية المتعددة في الفترة الأخيرة، ورغم الاحساس الداخلي بوشوك الخطر إلا أن قبوله وتصديقه لم يتحول لأمر نفسي واقع، وما زالت التوقعات تلتحف الخوف من إمكانات حدوث توقعات مابعد الانفصال الذي أصبح جزءا من الأمر الواقع . ولا يوجد فرد في الشعب السوداني الذي تجاوز تعداده الأربعين مليوناً
قضمت منه النخب السياسية المليون نفس، يتمكن من رسم خارطة بلاده المقبلة والتي لن تبقى على مليونها القديم كأكبر بلد عربي افريقي وهي في طريقها لتصبح وطنا مشطورا لم تتحدد معالم خريطته بعد مع طغيان احتمالات الانفصال .
ويتبع الجهل بخرائط الحدود توقعات نتائج ظلت لفترة ست سنوات ولا تزال شغلاً شاغلاً لا يزال العالم يحبس فيه أنفاسه في انتظارها .
لقد تجلّت تلك المخاوف التشاؤمية قبل أشهر من موعد الاستفتاء بتراشق الاتهامات بين الجانبين وفوران كل جانب واشتعاله، فالمؤتمر الوطني الحاكم بدأت وتيرة لهجته الحادة تتصاعد تدريجياً مع بدء العد التنازلي للاستفتاء وهو ذات الموعد الذي بدأت فيه الحركة الشعبية مجاهرتها برغبة الانفصال التي كان قادتها رغم فعالهم الانفصالية الواضحة يعلنون وحدويتهم في (برابوقندا) إعلامية واضحة .
الخريطة التي لم يتم تحديدها بعد بين الدولتين القادمتين تشكل المصدر الرئيس لكل مخاوف الاحتمالات القادمة لأن منطقة أبيي ومناطق النيل الأزرق وجبال النوبة لازالت تقف شوكة في حلق المرحلة المقبلة .
العدائية المطلقة التي تمكّن قادة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية من بثّها بين شعبي الدولتين القادمتين أبقت الشارع السوداني في حالة توجّس وترقّب رغم تطمينات الرئيسين (البشير وسلفاكير) للرأي العام العالمي بحفاظهما على حقوق الشعبين، غير أن المواطن السوداني يدرك ما سيترتب عليه الانفصال من قمع مؤيّدي كل جهة في الجهة الأخرى وما ينتظرهم من مصير قاتم .
آثار الفصل السلبية أطّلت بداياتها قبل إجراء الاستفتاء، فخزينة الدولة في الخرطوم أعلنت حالة الطوارئ واعترفت بانعدام العملة الصعبة وسارعت وزارة المالية باتخاذ إجراءات صارمة فرضت من خلالها قيوداً على حركة الواردات ومحاصرة السوق غير الشرعية للاتجار في العملة الصعبة، وهي إحراءات قابلها أباطرة (السوق السوداء) بالحرب غير المعلنة والتي حبسوا من خلالها السيولة النقدية التي شكلت اختناقات كبيرة انعكست سلباً على الأسعار خاصة السلع الضرورية مما أفرز حالة من عدم الرضا في الشارع العام .
الحكومة الجنوبية بدورها سارعت لاحتضان الفصائل الدارفورية باعتبارها قوة ضغط معارضة لحكومة الشمال وأداة لشغلها عن التعرّض للحكومة القادمة في البلد الوليد رغم إعلان سلفاكير ميارديت قائد الحركة طرد تلك الفصائل، بينما انشغلت حكومة الشمال بمحاولة سدّ العديد من الثغرات والتفلتات التي برزت بقوة في الفترة التي تسبق إعلان النتيجة التي أضحت شبه مؤكدة لصالح احتمالات الدولتين .
بداية الاستفتاء صاحبت الفترة الطبيعية لانتقال قبائل المسيرية جنوباً مما أثار حفيظة الشعب الجنوبي الموعود بدولته الجديدة والتي حاول ممارسة سيادته عليها قبل معرفة النتيجة فقامت اشتباكات متفرقة تم الاعلان عن بعضها وإغفال البعض الآخر .
قادة الدولة الجنوبية المرتقبة وفي غمرة نشوتهم باللحظة التاريخية لم يفكروا في مآلات مابعد الاستفتاء وما ينتظرهم من مشكلات كبيرة أهمها أن الدولة الجديدة لاتعدو كونها مجرد أرض يسكنها بشر وتحتاج لكل وسائل الاعمار والبنى التحتية، أما النفط فيحتاج خط أنابيب جديد في حال عدم الاعتماد على أنابيب الشمال، وتحتاج الأرض البور إلى أموال ضخمة لاستصلاحها، هذا غير المشكلات المؤجلة بين الفصائل التي ينتظر قادتها كعكتهم في السلطة القادمة .
وعود دولية كبيرة من أمريكا وrdquo;إسرائيلrdquo; وعموم الغرب أغرقت بها دولة لم يتأكد قيامها بعد، ولتاريخ الوعود في المنطقة حكايات وسوابق تجعل أمر تصديق تنفيذها الكلّي مستحيلاً خاصة أن تلك الدول الواعدة ما زالت تغرق في الأزمة الاقتصادية العالمية وتحاول جاهدة الخروج منها بشتى السبل . وبينما تتجه أعين قادة الدولة الجديدة في جنوب السودان لوعود الدول الأجنبية تتجه أعين الدول الأجنبية للمكاسب الاقتصادية الكبيرة التي ستجنيها شركاتها دون أن تخسر شيئا .
اقتسام مقاعد الدولة يبقى التحدي الأصعب الذي سيواجه حكومة الدولة الوليدة خاصة أن القبائل الجنوبية الكثيرة العدد المتنافرة الطبائع والمثقلة بأحقاد شخصية ودماء كثيرة سالت على مرّ السنوات الماضية في بيئة تسودها ثقافة الثأر والغبن المتراكم، إضافة إلى القوى السياسية المتعددة التي حاربت بعضها بعضا لعقود طويلة وتسابقت في نهاية المطاف لنيل حظها من الحكومة الأولى والتي تملك استعداداً متعاظماً للقتال تدعمها ترسانات الأسلحة التي تملكها كلها براميل بارود تنتظر المرحلة القريبة القادمة .
إدماج مقاتلي تلك القوى والتي خلعت عليهم الرتب العسكرية المختلفة في جيش نظامي واحد سيخلق خلافات عميقة، إضافة إلى نزعة السيطرة على قيادة الجيش الموحد في ظل عدم الثقة السائد بين الحركات والذي يجعل كل حركة تحاول السيطرة على مقاتليها الذين يتم إدماجهم داخل الجيش الواحد حال تكوينه ستقود لاحتكاكات وتفلتات تسببها تداخلات الصلاحيات بما يرجح احتمال قيام حرب ضارية داخل قوة الجيش الموحد الذي يتحول لدجاجة تأكل بيضها وشمعة تذوب وتتآكل من ذاتها .
خطوات التنمية وقيام المشروعات الموعودة ستبقى واحداً من فتائل الأزمة المرشحة لقيام الحرب الداخلية في الدولة الجديدة، حيث يستحيل قيام مشروعات جادة ومدروسة في كل المناطق القبلية ما يعطي إحساس التهميش للقبائل التي لا تنال مناطقها حظاً وافراً من تلك المشروعات فتتعامل بلغة العنف وعرقلة المشروعات التي تقوم في مناطق قبلية أخرى خاصة بين قبائل التضاد كالدينكا والشلك والنوير والزاندي والأنواك .
الأموال التي كانت خزينة سودان المليون ميل قد أعطتها لقادة الجنوب قبل الانفصال والتي اختفت من دون أن تترك أثراً يذكر في دولة الجنوب سيتم السؤال عنها حتى لايتم تقييدها ضد مجهول، وفي عملية المحاسبة والمساءلة يكمن شيطان الفتنة الذي يقود لعواقب لا تحمد عقباها بكل تأكيد، وستتحول معها الصورة البطولية لقادة الانفصال إلى النقيض تماماً .
مقتل الزعيم الراحل جون قرنق سيتم نبش وقائعه من جديد وفي محاولات إطالة وقص أصابع الاتهام تكمن أسباب اشتعال حرب داخلية جديدة تهدد معها كل أحلام ثبات صحة المولود الجديد، تتبعها استحالة استيعاب العائدين من الشمال السوداني والذين لايزالون في معسكرات أشبه بالثكنات ينتظرون المأوى الدائم والوظائف التي تؤمن لهم الاستقرار والعيش الكريم، مضافاً لهم العائدون من المنافي المهجرية والذين تلقوا قسطاً وافراً من التعليم ويحلمون بوظائف سيادية ويحملون معهم أفكاراً تتناقض بين العلمانية والعقائدية والوسطية، في وقت تعاني فيه الدولة الجديدة من الأساس بطالة مزعجة كانت واحداً من أسباب الجنوج لخيار الانفصال عن الشمال .
تحديات كثيرة تنظر الدولة الموعودة التي اتجه قادتها جهاراً نهاراً لrdquo;إسرائيلrdquo; والغرب وكافة الدول التي شجعت الفصل محاولين تحميلها عملية ترتيب الأوراق في وقت تعاني فيه تلك الدول من عدم فهم عميق لطبيعة تكوينة الإنسان الجنوبي وشح الدراسات الدقيقة حول المشكلات الحقيقية التي تحول دون ترتيب أوراق تلك الدولة الجديدة، وقد تاهت حتى هذه اللحظات بداية الطريق عن تلك الدول التي اكتفت بالتفكير في الحلول الاقتصادية السطحية التي اكتفت بالوعود المنحية ووعود إقامة مشروعات لم تتعد عامل النفط كعامل وحيد .
ldquo;إسرائيلrdquo; من جانبها حاولت تجميع القادة المتناثرة أفكارهم على كلمة سواء على الأقل في المرحلة الأولى عبر الاجتماعات المتتالية في تل أبيب والتي انفضّت بكارة سريّتها في ما تسرّب لوسائل الإعلام فقد تجاهلت عن جهل أو عمد قراءة احتمالات المشكلات الداخلية في تهافتها على السيطرة على الدولة الجديدة التي تعجّل في تحقيق حلم طال انتظاره في السيطرة على منابع النيل وروافده وشغل الوطن العربي عن قضيته بقضية أخرى تبعد اهتمامه بما يدور في الأرض المحتلة .
وتبقى مسألة ديون السودان الخارجية مسألة معقدة بجانب الأصول الحكومية ومناطق أبيي وجبال النوبة والنيل الأزرق، فالديون التي بلغت 38 مليار دولار لم يتم الاتفاق على نسب مسؤولية كل دولة من الدولتين المنفصلتين فيها حيث يرفض قادة الجنوب تحمّلها مع دولة الشمال بحجة أنها استخدمت في الحرب ضدهم والبقية الباقية أنفقت على مشروعات تنموية في الشمال بينما تتمسك دولة الشمال بحجة أن هناك عديداً من المشروعات قامت في الجنوب كمشروع بحيرة ناصر ومشروع الزاندي ومناشير الغابات والموانئ النهرية وغيرها والتي أسهم الجنوبيون أنفسهم إبان فترة الحرب في إفشالها وتعطيلها .
أما مشكلة جبال النوبة فقد بدأت ترتبط بمشكلة أبيي ذلك أن المنطقتين تقعان في ولاية واحدة هي ولاية كردفان التي يشكو سكانها من التهميش، وقد قادت جبال النوبة عددا من الحركات الاحتجاجية عبر الحكومات السودانية المختلفة وأنشأت قوى سلمية ومحاربة على مر التاريخ منها حركة الراحل فيليب عباس غبوش وحركة الراحل يوسف كوة وتجمّع أبناء جبال النوبة وحركة المهمشين وغيرها من الحركات التي أقلقت مضجع الحكومة فترة من الوقت وحارب بعضها جنباً لجنب مع حركات التمرد الجنوبية قبل اتفاقية نيفاشا، وسيبقى التصويت المؤجل على الحكم الذاتي واختيار الانضمام لاحدى الدولتين المفصولتين برميل بارود آخر ينتظر الانفجار بسبب تكوينتها السكانية المشابهة تماما لمنطقة ابيي بين الحوازمة العرب والنوبة الأفارقة ومن يحق له التصويت .
النيل الأزرق ذات التاريخ العريق والذي يضم العرب والأفارقة تحمل ذات المواصفات الداعية للتوجس من قوادم الأيام .
أما دولة الشمال فلن تكون أحسن حالاً من دولة الجنوب، فالغبن الشعبي من تفريط الحكومة في جزء كبير من الأرض السودانية مكّن قوى المعارضة من رفع صوتها وإعلان نبرة التحدي والامتعاض للدرجة التي جاهرت فيها العديد من الأحزاب بسعيها الجاد لإسقاط الحكومة وإزالتها من خارطة السياسة السودانية إلى الأبد، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بصورة جنونية مع بداية الاستفتاء خلق جواً مهيئاً لقيام ثورة شعبية عارمة خاصة أن وسائل الاعلام العالمية التي اهتمت بنقل أحداث أجزاء من الدول العربية في افريقيا كتونس والجزائر منحت المعارضة فرصة محاولة إعادة ذلك المنتج الثوري الشعبي في الخرطوم، بينما قادة الحركات الدارفورية الذين علّقت الحكومة الشمالية تفاوضها معهم في الدوحة يتأهبون للانقضاض عليها في وقت بدأت فيه أصوات سياسية في الشرق تجاهر برغيتها في استنساخ استفتاء الجنوب .
وأثار خطاب البشير الجماهيري في مدينة القضارف بشرق السودان والذي أعلن فيه تطبيق الشريعة الإسلامية بعد انفصال الجنوب حفيظة القوى العلمانية واليسارية التي استنكرت على البشير تصريحاته التي جاءت وكأنه المالك الوحيد للدولة الشمالية المقبلة .
التعليقات