صلاح عيسى

اختارت المفوضية العليا لاستفتاء تقرير مصير جنوب السودان شعار الكفين المضمومتين، rlm;لكي يؤشر عليها الناخب الذي يختار وحدة الجنوب مع الشمال، rlm;وشعار الكف الواحدة المبسوطة لكي يؤشر أمامها الناخب الذي يختار انفصال الجنوب، rlm;ومنذ صباح الأحد الماضي تقاطر الجنوبيون على مراكز الاقتراع ليختاروا بين الوحدة والانفصال، وبين الكفين المضمومتين، rlm;والكف الواحدة المبسوطة، rlm;فإذا سألهم مراسل تليفزيوني، قبل دخولهم للمركز أو بعد خروجهم منه، rlm;عن الشعار الذي صوتوا له، rlm;لوح كل منهم بكفه المبسوطة وقال: rlm;باي.. rlm;باي.. rlm;خرطوم!rlm;
ذكرني الشعار بآخر شعارات وحدة وادي النيل، rlm;التي كان جيلنا يرددها ونحن أطفال في المدارس الابتدائية، rlm;في مظاهرات عارمة كانت تخرج، rlm;لتردد الشعار الثابت التي عاشت عليه الحركة الوطنية المصرية لعقود متتالية، rlm;خلال النصف الأول من القرن الماضي، rlm;وهو الجلاء والوحدة، rlm;أي جلاء جيش الاحتلال البريطاني من مصر والسودان ووحدتهما تحت التاج المصري، rlm;وهو شعار كانت تتنوع صياغته من جيل إلى جيل، rlm;حسب تطور الأحوال وموازين القوى، rlm;وكانت آخر طبعاته التي رددتها مظاهرات جيلنا تقول مصر والسودان لنا.. rlm;وإنجلترا إن أمكنناrlm;، rlm;والضمير بالطبع عائد علينا نحن المصريين!rlm;
ولابد أن الذي صاغ تلك الطبعة من الشعار، rlm;كان أحد يعاقبة البرجوازية المصرية الصغيرة، rlm;ممن يجمعون بين الحلم الوطني الرومانسي بالتحرر من الاحتلال والقهر، rlm;والحلم الشوفيني باحتلال بلاد الآخرين وقهرهم، rlm;ويتسمون مع ذلك بقدر من التردد، rlm;يدفعهم إلى شيء من الواقعية، rlm;جعلت صائغ تلك الطبعة من الشعار، rlm;يجزم في مصراعه الأول بأن مصر والسودان ستكون لنا، rlm;ويعلق مصراعه الثاني وهو أن تكون إنجلترا كذلك لنا، rlm;علي شرط الإمكان، rlm;الذي كان مستحيلا آنذاك، rlm;ولايزال كذلك إلي الآن، rlm;وربما إلي الأبد.rlm;
وكانت وحدة مصر والسودان، rlm;هي الصخرة التي تحطمت عليها معظم المفاوضات بين مصر وبريطانيا، rlm;حتي تلك التي كان الطرفان قد توصلا من خلالها إلي تسوية مقبولة منهما، rlm;تقلص من حجم الاحتلال البريطاني لمصر، rlm;إذ كان المفاوض المصري يرفض التوقيع على الاتفاقية، rlm;بسبب إصرار البريطانيين علي عدم الاعتراف بوحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، rlm;وفي كل مرة كانت المفاوضات تفشل ولا تترك سوي شعار يطلقه المفاوض المصري تبريرا لهذا الفشل، rlm;يتغني به الناس زمنا ثم ينسونه، rlm;كان من أشهرها تصريح أدلى به سعد زغلول عامrlm; 1924, rlm;في أعقاب المفاوضات التي أجراها في لندن وفشلت بسبب السودان، rlm;وقال فيهrlm;: rlm;لقد دعونا ـ أي الإنجليز ـ لننتحر، rlm;فرفضنا وهذا هو كل شيء، rlm;والتصريح الذي أدلى به مصطفي النحاس في أعقاب فشل مفاوضاته عامrlm; 1930, rlm;للسبب نفسه، rlm;وقال فيهrlm;: rlm;تقطع يدي، rlm;ولا أوقع على معاهدة تقطع السودان عن مصر!rlm;
ولم تكن وحدة مصر والسودان، rlm;خلال تلك العقود، rlm;موضوعا فقط للمفاوضات ولهتافات المتظاهرين، rlm;ولكنها كانت كذلك المصدر، rlm;الذي ألهم عددا من ألمع شعراء العصر ـ منهم حافظ وشوقي ومطران ـ قصائد تتغنى بهذه الوحدة، rlm;وألهم عددا من المطربين والملحنين ـ كان من بينهم سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم ـ أدوارا وطقاطيق ومنولوجات رددها الناس، rlm;فضلا عن أنها كانت موضوعا لسيل لا يتوقف من الكتب والأبحاث تصدرها دور النشر، rlm;وآلاف المقالات والأخبار تحتشد بها الصحف.rlm;
وكانت مشكلة شعار وحدة مصر والسودان أن أحدا في مصر، rlm;لم يكن يهتم بموقف السودانيين من هذه الوحدة، rlm;أو يعني بأن يستثير حماستهم لها، rlm;إذ ظلت الحركة الوطنية المصرية، rlm;تتحدث عن حق الفتح وتعتبر أن السودان جزء من مصر، rlm;لأنها ضحت بآلاف من أبنائها وأنفقت ملايين الجنيهات في عهد محمد علي وإسماعيل، rlm;أثناء الحملات التي أدت إلى ضمه إليها، rlm;وأنها تحملت القسم الأكبر من المجهود الحربي في الحملة البريطانية المصرية لاستعادته بعد الثورة المهدية في نهاية القرن الماضي، rlm;فضلا عن أن لها مصالح إستراتيجية به، rlm;تتعلق بمياه النيل، rlm;من دون أن يتنبه الذين يشيعون هذا الخطاب إلي تأثيره السلبي على السودانيين ولا يجعل من شعار الوحدة باعثا لتحمسهم له.rlm;
وعلى العكس من هذا الخطاب، rlm;فقد تمسك البريطانيون في كل المفاوضات، rlm;بألا يوقع علي معاهدة تلحق السودانيين بمصر، rlm;من دون الحصول على موافقتهم علي ذلك، rlm;وسعي لتهيئة الأوضاع في السودان بحيث تنتهي إلى خيار الانفصال، rlm;ولم تنتبه الحركة الوطنية المصرية، rlm;إلى خطأ الخطاب الوحدوي الذي يتبناه، rlm;إلا حين برز من داخلها، rlm;في أعقاب الحرب العالمية الثانية، rlm;تيار يساري،rlm;رفع شعار الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني من أجل التحرر وهو الشعار الذي ظل يتفاعل خلال السنوات التالية، rlm;إلى أن أعلن وزير الخارجية في حكومة الوفد، rlm;أمام الأمم المتحدة، rlm;قبل أيام من إقالة الحكومة، rlm;أن مصر توافق على أن يمارس السودانيون حق تقرير المصير.rlm;
وكان هذا الإعلان، rlm;هو الذي استندت إليه ثورة يوليو، rlm;حين شرعت بعد شهور من استيلائها على السلطة، rlm;في إجراء جولة جديدة، rlm;من المفاوضات مع بريطانيا لحل المسألة الوطنية، rlm;كما قررت أن تفصل بين شعاري الجلاء والوحدة وحتى لا تتحطم المفاوضات على rlm;صخرة قضية الوحدة، rlm;كما هي العادة، rlm;بدأتها بالملف السوداني، rlm;الذي انتهت المفاوضات حوله بتوقيع معاهدة ينايرrlm; 1953, rlm;التي أسفرت عن إقامة فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات، rlm;يستفتي السودانيون في نهايتها بين اختيار الوحدة مع مصر، rlm;أو الاستقلال، rlm;وأجري الاستفتاء وانتهى باستقلال السودان!rlm;
وبعد أكثر من خمسين سنة على ذلك الاستقلال، rlm;كررت حكومات السودان المستقل، rlm;الخطأ نفسه الذي وقعت فيه الحركة الوطنية المصرية، rlm;فتجاهلت حقيقة أن مواطني محافظات جنوب السودان، rlm;لم يرحبوا بالمعاهدة المصرية البريطانية ولم يتحمسوا لفكرة أن يكونوا جزءا من السودان الموحد، rlm;وأن عليها أن تتعامل مع هذه الحقيقة، rlm;وأن تتبنى خطابا لا ينطلق من أن وحدة الأوطان، rlm;هي مسألة غريزية، rlm;لا تحتاج إلى أي rlm;مجهود لترسيخها، rlm;بل هي مسألة واقعية عملية تحتاج إلى جهد للتغلب علي العوامل التي تؤدي إلى نفور الناس منها، rlm;فتتالت شكاوى الجنوبيين بأنهم يعاملون باعتبارهم مواطنين درجة ثانية في ظل حكومات الاستقلال، rlm;التي تنحاز إلى الشمال على حسابهم، rlm;فلا ينالون نصيبا من الخدمات والمشروعات العامة، rlm;وظلت المسألة تتعقد، rlm;حتى وصلت إلى الحروب الأهلية، rlm;على نحو لم يعد هناك معه مفر، rlm;من أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه، rlm;فيتدافع الجنوبيون إلى مراكز الاقتراع، rlm;فلا يجذبهم شعار الكفين المضمومتين، rlm;ويختارون الكف المبسوطة، rlm;ويهتفونrlm;: rlm;باي.. rlm;باي.. rlm;خرطومrlm;!rlm;
وأخشى ما أخشاه، rlm;أن تكرر حكومة جنوب السودان المستقل، rlm;الخطأ نفسه، rlm;فتعتبر وحدة الجنوب هي مسألة غريزية لا تحتاج إلى جهد لتأكيدها، rlm;أو إلى سياسات لترسيخها، rlm;تقوم على المساواة وعدم التمييز، rlm;فتتكرر النتيجة، rlm;ويتقاطر الناخبون في ولاية أو أكثر من الولايات العشر التي تتكون منها الدولة المستقلة، rlm;على مراكز الاقتراع، rlm;ليصوتوا علي الكف المبسوطة، rlm;ويخرجوا من المركز، rlm;ليقولوا لمراسلي التليفزيونrlm;: rlm;باي.. rlm;باي.. rlm;جوباrlm;!.rlm;
ورحم الله الزمان الذي كنا نهتف فيهrlm;: rlm;مصر والسودان لنا وإنجلترا إن أمكنناrlm;!rlm;