رضوان السيد

حقّق الإسلام السياسي - المتمثّل بالإخوان المسلمين والأحزاب المشابهة - ويحقّق تقدما ملحوظا نسبتُه نحو الأربعين في المائة في كلٍّ من تونس والمغرب ومصر. وقد كان ذلك أمرا متوقَّعا منذ ثلاثة أو أربعة أشْهُر. وقد سألْتُ خبراء من الإسلاميين والليبراليين وشباب الانتفاضات في البلدان الثلاثة واليمن عن العِلّة في ذلك، فاختلفت إجاباتُهم ودخلت في تفاصيل تُركّز على الخصوصيات في كلّ بلد. وما كان ذلك مُقْنِعا بالنسبة لي لأنّ الظاهرة عامّة، ويُنتظر أن تتكرر في بلدانٍ عربيةٍ أُخرى سواء أشهدت ثوراتٍ أم لم تشهد.

بدأ الخبيران التونسي والمصري التحليل بالقول إنني لم أكن مخطئا في الثُنائية التي وضعتُها للزمن المنقضي: استبداد في مواجهة تطرف وتشدُّد. وقد سقط طرفا تلك الثُنائية في كلّ بلدان الثورات بالفعل، أي الاستبداد من جهة، والعنف باسم الدين من جهةٍ أُخرى. أما الإسلام السياسي فلم يسقط، لأنه انضمّ إلى الثورات وإنْ متأخِّرا، ولأنّ الناسَ لا يخشَونه لأنه غير عنيفٍ حتى الآن، وما كان عنيفا خلال العقود الثلاثة الماضية، ولأنه حَسَنُ التنظيم، وقادرٌ ماديا من خلال شبكات المساعدة للفقراء، والتي أنشأها وغذّاها طوال العقود الماضية، ولأنه أجرى صفقاتٍ مع السلطات الجديدة/ القديمة، حالت دون الإصرار على عزْله أو استهدافه.

ثم تابع الرجلان حديثَهما عن الجانب الآخَر من الصورة. فشباب الثورات تجاهلوا تجاهُلا كليا فئات المجتمع التقليدي، وقوى الطبقة الوسطى المُرتاحة والتي تريد العودة للاستقرار بسرعة وركّزوا على مكافحة السلطات العسكرية، وlaquo;فلولraquo; النظام السابق. وما استطاعوا التجمع في تنظيمٍ واحد أو تنظيمات قليلة فضاع الوعي لدى الآخرين ولديهم بالاستهدافات والأَولويات، وأقبل الناس في النواحي الريفية والبلدية (دون المدن الكبرى) على الاقتراع للإسلاميين للأسباب العقَدية، لكنْ أيضا للخدمات، ولما يُشعرون به من ثقةٍ وطمأنينة. ويضاف إلى ذلك أنّ الإسلاميين أنفسهُم (باستثناء السلفيين) ما أثاروا حولهم وحول شعاراتهم وتصرفاتهم لغَطا يشبه اللغَط الذي كانوا يثيرونه في الانتخابات في الزمن الماضي.

إنّ الذي أراه أنّ هذه الأسباب laquo;تقنيةraquo; إذا صحَّ التعبير، وهي مهمةٌ باعتبارها كذلك، إنما كما سبق القول، فقد تحوَّل أمر ظهور الإسلاميين على السطح وفي مقدمة الصورة إلى ظاهرةٍ لا تُعلِّلُها أو لا تُعينُ على فهمها التقنيات والصِيَغ والتكتيكات. والأدنى والأكثر واقعيةً العودة قليلا أو كثيرا إلى الوراء. فالمعروف أنه عندما كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يضطرّ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة إلى الخروج من البلاد بعد عام 1989، واللجوء إلى الجزائر، كان العسكريون الجزائريون يعزلون رئيس الدولة الشاذلي بن جديد، لأنه أراد التسليم بفوز حركة الإنقاذ، ويشتبكون مع الإسلاميين في معارك تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية طوال التسعينات. وهذه الظاهرة، أي ظاهرة إنكار نتائج الانتخابات بتونس والجزائر في أواخر الثمانينات ومطالع التسعينات من القرن الماضي، تكررت على مَبْعدةٍ وللمرة الثالثة أو الرابعة في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 حيث فازت حماس على فتح بنسبةٍ كبيرة كما هو معروف. وقد ظهر الدور الدولي في إنكار فوز حماس هذه المرة، إنما الواضح أنه كان موجودا في حالتي تونس والجزائر، بل وكان موجودا في مساعدة الرئيس حافظ الأسد في القضاء على التمرد الإسلامي بسوريا بين العامين 1980 و1982. وما كان ذلك الدور واضحا في السنوات العشر الماضية بالأردن، لكنْ لا شكَّ أنّ تأمُّل الملك عبد الله الثاني للمشهد من حوله، هو الذي دفعه إلى جَعْل مشاركة الإخوان الأردنيين عسيرة من خلال قوانين الانتخاب المتغيرة والمتبدلة.

لقد كان هناك نظامٌ دولي جديدٌ أو جديد/ قديم، تأمَّل ردَّة فعل الإسلاميين على ضرب العراق عام 1990 - وكانوا هم الفئة الوحيدة التي تملك بقايا تنظيم - وقرر منذ ذلك الحين أن يتحالف مع السلطات القائمة، وأن لا يحاسبها بمقاييس الحرب الباردة، وبخاصةٍ أنهم خاضوا معه الحرب على العراق، ودخلوا معه بعدها في محادثات مدريد للسلام. ومن الطبيعي وسط هذا الاحتقان الكبير مطلع التسعينات أن تتجدد التمردات، وأن تظهر فكرة الإسلام الجهادي العنيف الذي ينبغي مكافحتُه. وما كان الحكام العرب هم الذين laquo;اخترعواraquo; النظرية والرؤية، لكنهم عندما اهتدوا إليها بعد منتصف التسعينات استغلُّوها إلى أقصى الحدود للخلود في السلطة، بينما استغلتها الولايات المتحدة - في سياساتها الجديدة - إلى الحدود القصوى من الطرف الآخَر، وقادت الأفعال وردود الأفعال إلى أحداث 11/9/2011 وإلى غزو أفغانستان والعراق، وشنّ الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي!

وبحسب ظروف وسياقات كلّ بلد كانت ردةُ فعل الإسلاميين على إنكار الفوز عليهم في الانتخابات؛ فالجزائريون تسرعوا وردوا على العنف بالعنف، بينما تمهل التونسيون والمصريون والأردنيون، وبادرت حماس بدفعٍ من سوريا وإيران إلى الانفصال بغزة بالقوة العسكرية.

إنّ هذه الوقائع لا يمكن نسيانُها أو تجاهُلُها، لأنه كانت لها نتائج لا تزال جارية، وستظلُّ لها آثار. فقد تراجعت سياسات المواجهة الأميركية منذ أواخر أيام بوش، وانفتحت نقاشاتٌ بأشكالٍ مختلفةٍ بين الأميركيين والأوروبيين من جهة، والإسلاميين laquo;المسالمينraquo; من جهةٍ أُخرى. لكنّ الإسلاميين ظلُّوا حذِرين إلى حدٍ كبير، ليس خوفا من الأنظمة فقط، بل وخوفا من غدْر الأميركيين أو تخلّيهم. ولذلك فقد تخلَّفوا عن الأيام والأسابيع الأولى للثورات في تونس ومصر وليبيا وسوريا ولأسبابٍ مختلفة؛ وعندما شاركوا ظلُّوا على حذرٍ وخَفَرٍ حتّى كانت الصفقات الخفية أو الظاهرة مع السلطات الجديدة أو مع دول الجوار العربية وغير العربية.

لن يشكّل الإسلاميون السياسيون خَطَرا على الأُطروحتين الرئيسيتين للثورات: المسار السلمي، والدولة المدنية. وسيتراجعون إذا انتظمت الانتخابات الحرة، وإذا استطاع الشبان التواصُل مع فئات الجمهور بطرائق أفضل. إنما هناك أمران اثنان لا ينبغي نسيانهما، أولهما الميل المتزايد للإسلاميين لاستخدام الدين في الصراع السياسي. وهذه مسألةٌ شديدةٌ الخطورة على الدين. وقد أدركها شيخ الأزهر في وثيقتيه عن مستقبل النظام في مصر، وعن حركات التغيير العربية. فهل يستطيع الإسلاميون التلاؤم مع الدولة المدنية، من خلال النهوض الفكري والسياسي، وبخاصةٍ أنّ لفئاتٍ وشخصياتٍ منهم سوابق وأُطروحات تنويرية؟ وثاني الأمرين أنه كانت لكثيرٍ من الأحزاب الإسلامية علاقاتٌ بإيران والتحركات الإيرانية في المشرق والمغرب بحجة فلسطين ومكافحة الأميركان والصهاينة. وإلى ذلك نبَّه الجنرال سليماني قائد فيلق القدس، عندما قال - وسط الخلافات الآن بطهران على سياساته هو وحزب الله بالعالم العربي - إنّ أي أمرٍ يصيبه، سيكون الردُّ عليه من مصر! وهو يقصد أنّ إيران تحصد الآن من خلال الأحزاب الإسلامية الواصلة للسلطة نتائج سياساتها خلال السنوات العشر الماضية: فهل صحيحٌ أنّ ولاء حركات الإسلام السياسي - بما في ذلك حماس - كان ويبقى لإيران، أم أنّ ذلك وهمٌ من أوهام سليماني وأشباهه؟