سيد أحمد الخضر

بعد تصاعد دخان الثورات في السماوات العربية بات جليا أن معظم مراكز النفوذ التقليدية بدأت تفقد سيطرتها على إدارة العديد من الملفات المهمة في المنطقة. طبعاً ليس هذا مستغربا فمنطق الأولويات يحتم على الأنظمة التي كانت تتصارع على النفوذ في المنطقة الانكفاء على الداخل حتى تتجاوز المد الثوري الذي تضرب أمواجه معظم الأقطار العربية ولا تميز بين الممانعين والمعتدلين. ولا شك أن انسحاب هذه القوى من بعض ساحات النفوذ سيعقبه حلول أطراف أخرى تمسك بزمام المبادرات، لكن هذا لن يحصل في جميع بؤر الصراع حيث سيكون الفراغ سيد الموقف في مناطق ربما يكون أهمها لبنان. وبوضوح شديد نستطيع القول إن كلا من سوريا والسعودية انشغلتا مؤخرا عن الوضع في لبنان، فبينما يتفرغ النظام في العربية السعودية لأولويات من قبيل الانتخابات البلدية والتعامل مع الأحداث الراهنة عبر الإصلاحات الاقتصادية والفتاوى الشرعية، يواجه النظام السوري انتفاضة في درعا واللاذقية والصنمين ومطالب بالحرية وبالإصلاح وإحباط مؤامرات قال السوريون إنها تحاك ضدهم من الخارج. وبغض النظر عن حجم المشاكل التي يعكف النظامان على معالجتها فإن أياً منهما لم يعد يملك فائضا من الوقت لإنفاقه في الصراع مع الآخر على النفوذ في لبنان، وتكون النتيجة هي أن الأخير خلصته الأقدار من الارتهان لمزاج الممانعة في دمشق ومنطق الاعتدال في الرياض. بالنسبة لقادة الطوائف يبدو الأمر كارثيا فليس هناك -على الأقل عربيا- من laquo;يدفعraquo; ليعلو صوته في بيروت ونحن نعلم جميعا أن هذه القيادات لا تستطيع البقاء في قمرة القيادة ما لم يكن لبنان وجها لتشوهات المنطقة السياسية والمذهبية.
لكن البلد لم يتحرر بعد إنما يعيش نوعا من الفراغ قد يجعله لقمة سائغة لجهات أخرى وقد يملأه اللبنانيون أنفسهم عبر دحر الطائفية والتأسيس لدولة جديدة لا تحمل من أثقال المنطقة أكثر من طاقتها ولا يكون فيها لكل طائفة رئيس ولكل فئة قانون.
هما أمران فقط: إما أن يتصاعد نفوذ إيران في البلد عبر تقوية حلفائها وربما بكسب أتباع جدد، وهو أمر وراد جدا لغياب دور فاعل للعرب في اللحظة الراهنة.
طبقا لبعض المحللين تعني هيمنة الإيرانيين على السياسة في بيروت ارتفاع أسهم طهران في منطقة الشرق الأوسط وبقاء لبنان كبش فداء في أي صراع قد ينشب بين إيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى. قد يكون في وجهة النظر هذه شيء من المبالغة، لكنه من المؤكد أن انفراد أي طرف إقليمي بلبنان لن يكون عاملا في الاستقرار وتحرير البلد من قبضة الطائفيين.
الاحتمال الثاني هو أن يتولى اللبنانيون أنفسهم إدارة سياسة البلد بعيدا عن وصاية أي طرف، وهذا أيضا وارد خصوصا وأن إيران ذاتها مثل سوريا والسعودية تواجه تحديات من الداخل تجعل مواجهتها أقل تكلفة من ذي قبل. ويدعم إمكانية تحقق هذا الاحتمال رياح التغيير التي هبت على العرب وليس لبنان بمعزل عما يجري في المنطقة، وهناك توجه جديد في الشارع اللبناني ينم عن وعي بأهمية بناء دولة القانون والمؤسسات بدل الأكشاك الطائفية التي خربت البلد. لا شك أن فاتورة الثورة في لبنان ستكون كبيرة، كونها تتطلب تطهير الساحة من جميع الطبقة السياسية الحالية ومواجهة قوى دولية وإقليمية تختلف مصالحها في بيروت. لكن نتائج التغيير هناك ستنعكس إيجابا على جميع الدول العربية فتحرير لبنان يعني إشراقة وجه جميل طالما حجبته سحب الطائفية والأطماع الخارجية ويعني استعادة أهم مركز للتنوير والحرية في جغرافيا العرب.