فهمي هويدي


حين تصالح الجماعة الإسلامية المجتمع المصري بمسلميه ومسيحييه ونظامه، فماذا علينا أن نفعل؟ أغلب الظن أن البعض منا سيسارع إلى القول بأنهم يمكرون. ويبطنون غير ما يظهرون، مدعين أن تلك الكائنات التي تربت على العنف ومارسته ليس من السهل عليها أن تتخلى عنه. في ذات الوقت سنجد من يقول إنهم ماداموا مدوا أيديهم إلى المصالحة والمصافحة، فلماذا لا يمد المجتمع يديه إليهم، ليعينهم على الالتزام بالنهج الذي أعلنوه، ويحاسبهم عليه.
وللتذكرة والعلم فقط. فإن نواة laquo;الجماعةraquo; ظهرت في جامعة القاهرة في مستهل سبعينيات القرن الماضي، لكنها نمت وترعرعت في أسيوط بعد ذلك، وكان عنفها فكريا في البداية، ثم اتجهت إلى العنف المسلح بعد، عقب قتل اثنين من أعضائها برصاص الشرطة. وتحالفت مع جماعة الجهاد التي اعتنقت من البداية فكرة التغيير بالقوة والسلاح، واشتركت الجماعتان في قتل الرئيس السادات وفي حوادث إرهابية أخرى. ومنذ ذلك الحين (عام 1981) ظل أعضاؤها في السجون، في حين لجأ بعضهم إلى أفغانستان وباكستان والبوسنة وبلدان أخرى. وبعد الثورة أطلق سراح أغلب المسجونين منهم. في حين عادت من الخارج أعداد أخرى. وخلال فترة السجن راجعوا بعض أفكارهم وعدلوا عنها، خصوصا ما تعلق منها بفكرة التغيير بالقوة وبالموقف من الأقباط. وظهرت تلك المراجعات في ستة كتب منشورة، توافق أغلب قادة الحركة على مضمونها.
يوم الجمعة الماضى (8 /4) عقدت الجماعة أول مؤتمر علني لها وسط أعمدة المعبد الفرعوني في الأقصر، ونقلت صحف السبت 9/4 مقتطفات من كلمات قادتها، التي عبروا فيها عن تمسكهم بنبذ العنف واحترام الأقباط ودعوة جميع المصريين إلى التكاتف والحفاظ على مكتسبات الثورة. كما رفضوا فكرة تكفير الآخرين واستهجنوا هدم الكنائس والأضرحة ودعوا إلى تشجيع السياحة وجذب الاستثمار. وهو ما سمى بعهد laquo;الأمانraquo;، الذى يشمل الجميع من المصريين (مسلمين وأقباطا) وأجانب أيضا.
هذا الكلام في ظاهره يبعث على الارتياح. صحيح أنه يستقيم إلى حد كبير مع الإطار العريض للمراجعات التي سبق نشرها وإعلانها، إلا أنه يكتسب أهمية خاصة من كونه أعلن على الملأ بعد خروج قادة الحركة من السجون. لأن صدور المراجعات وهم رهن الحبس فتح الباب للشك فى أنهم ربما كانوا تحت ضغط الظروف البائسة التي أرادوا الخروج منها بأي ثمن، ولكن الالتزام بذات الأفكار بعد إطلاق سراحهم يعد قرينة ترجح جدية اقتناعهم بتصويب أفكارهم.
أدرى أنه ليس هناك إجماع على التصويبات والمراجعات التي تمت، وذلك لا ينبغي أن يقلقنا كثيرا، حيث يكفينا في الوقت الراهن أن يكون ذلك رأي الأغلبية، أما الذين لايزالون على تشددهم فكونهم أقلية لا يزعجنا، ثم إن الباب يظل مفتوحا أمامهم لكي يلتحقوا فيما بعد بمن سبقهم.
لن نعدم قائلا يقول إنها laquo;مناورةraquo; لتحسين الصورة واكتساب الشرعية. كما أنني لست أشك في أن البعض سينظرون بامتعاض إلى موقف التصالح مع المجتمع الذي أعلنه قادة الجماعة. ذلك أن بيننا من تمنى أن تظل الجماعة على تطرفها، لأن ذلك يهدي إليهم حجة كافية للتنديد بما يسمونه laquo;إرهابا إسلامياraquo; ومن ثم استمرار تخويفهم من laquo;المتأسلمينraquo; الأشرار الذين يرتدي بعضهم أقنعة المعتدلين، وهؤلاء يعتبرون أن الاعتدال هو الخطر الحقيقي الذي يتهددهم. لأنه يكذب حجتهم وزيف دعاواهم.
لا يستطيع أحد أن يزايد علىَّ في نقد فكر العنف والمفاصلة الذي تبنته الجماعة الإسلامية طوال أكثر من ثلاثين عاما. وربما يذكر البعض أنني لم أعلق على المراجعات التي أصدرها قادتهم في أثناء محبسهم لشكي في الظروف التي حملتهم على ذلك، ولعلمي بأن ضباط أمن الدولة كان لهم دور في رعاية ذلك الاتجاه. ولكن حين يعلن قادة الجماعة عن موقفهم الذي سبقت الإشارة إليه أمام الملأ وبعد أن استردوا حريتهم، فإننا ينبغي أن نرحب بذلك ونزكيه. باعتبارهم عادوا أخيرا إلى حضن مصر. ذلك أنني واحد ممن يقتنعون بأن الجهر بالأفكار يدفع أصحابها إلى الإقلال من الغلو والتحسب لردود الأفعال ومراعاة الصدى لدى الرأي العام، كما أن الممارسة واختبار الأفكار في الواقع يفتحان الباب لإمكانية تطويرها وإنضاجها. وهي ليست قناعة شخصية وحسب، لكنها خبرة التاريخ ودرسه أيضا.
لست أدعو إلى الترحيب وإغماض الأعين، وإنما إلى الترحيب الحذر الذي يشجع على المضي في مصالحة المجتمع والإسهام في أن تصبح الجماعة رافعة تسهم في النهوض به، وليس معولا يسعى إلى النيل منه. علما بأن الذين يصرون على أن الجميع متأسلمون لا خير فيهم، إنما يريدون إقناعنا بأن إبادتهم هي الحل، لكي يخربوها ويجلسوا على تلها!