يوسف مكي
أثناء الحملة الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض، تضمن برنامج المرشح الرئاسي، باراك أوباما انسحاباً أمريكياً من العراق، وتركه لأهله ليقرروا مستقبل بلادهم . وإثر إعلان فوزه كرر أوباما أثناء حفل تنصيبه ما وعد بتنفيذه، وأشار إلى أن احتلال الأمريكيين للعراق كان اختياراً، أما في حالة أفغانستان، فإن بلاده دخلتها مكرهة، لمواجهة إرهاب القاعدة . وتقرر أن تكون نهاية هذا العام موعداً لانسحاب جميع القوات الأمريكية من العراق .
في هذه الأيام، يحتدم جدل بين القوى المشاركة في العملية السياسية في العراق، حول الانسحاب الأمريكي من أرض السواد . وتطالب بعض القوى بتمديد فترة وجود الجيش الأمريكي، تحت ذريعة أن مؤسستي الجيش والأمن ليستا في كامل جاهزيتهما للدفاع عن البلد وتأمين استقراره .
مناقشة موضوع الانسحاب، وموقف مختلف القوى السياسية منه، يقتضي قراءة تفصيلية للقوى الفاعلة في الصراع . ومصلحة كل منها في بقاء أو رحيل الجيش الأمريكي من العراق . وذلك على أهميته ليس موضوع هذا الحديث . إن الهدف هو مناقشة الموقف الإيراني من الانسحاب ليس غير .
التركيز على إيران، يأتي في سياق موضوعي . فرغم أن احتلال العراق تم بقوات أمريكية شاركتها قوات بريطانية، وقوات رمزية حليفة، إلا أن إيران هي البلد الوحيد، الذي شاطر الأمريكيين المسؤولية في إدارة احتلال العراق، وتأمين الاحتياجات البشرية لإدارة الدولة، من خلال مشاركة أتباعها بقوة في الحكومات الانتقالية التي شكلها المندوب السامي، بول برايمر . وأيضاً بالدور الذي لعبته ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى، في تدمير الدولة الوطنية العراقية، وقد شكلت هذه الميليشيات العمود الفقري للجيش والأمن اللذين أسسا بعد الاحتلال، استناداً إلى المحاصصات الطائفية .
قراءة الموقف الإيراني على هذا الأساس، لن تكون مجرد استشراف لموقف قوة إقليمية مجاورة من التطورات والأحداث التي تجري في العراق، بل إنه أكثر من ذلك بكثير . فتشابك المصالح وتداخلها بين إيران والإدارة الأمريكية، والمغانم التي حققها الإيرانيون، في أرض السواد، على مختلف الصعد منذ عام ،2003 ترجح أهمية موقفهم، لاستشراف مستقبل عراق، ما بعد نهاية الاحتلال .
علاوة على ذلك، تساعدنا قراءة الموقف الإيراني، على التنبؤ بموقف مختلف الأطراف السياسية العراقية، المنهمكة في الصراع بما في ذلك المرجعية الدينية، وحزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى، وشخصيات أخرى ارتبطت بالاحتلال، كالجلبي والجعفري وعلاوي . وهي قوى تمثل غالبية البرلمان العراقي، وترتبط بشكل أو بآخر بالموقف الإيراني .
في هذا السياق، نميز بين الشعارات التي تطرحها إيران، الداعية بالموت لأمريكا، وبين الموقف المنسق مع الأمريكيين، منذ انتصار الثورة نهاية السبعينات . وكانت علاقة التنسيق مع الأمريكيين قد بدأت في الأيام الأولى للثورة بعد احتجاز أعضاء السفارة الأمريكية من قبل الحرس الثوري الإيراني . حينها كان التنافس مريراً بين الرئيس الأمريكي كارتر، الديمقراطي، ومرشح الجمهوريين رونالد ريغان الذي فاز بالرئاسة دورتين متتاليتين . وقد كشفت الوثائق عن اتفاق بين المرشح الجمهوري وحكومة الثورة الإسلامية، لتأجيل إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، ريثما تنتهي الانتخابات بفوز مرشحهم . وتم الاتفاق بوساطة جزائرية .
التعرف إلى الموقف الإيراني من الانسحاب الأمريكي، يقتضي تقديم مقاربة بين ما يحققه الإيرانيون من مكاسب وخسائر في حال استمرار بقاء الأمريكيين في العراق، وتبعة الانسحاب على أوضاعهم المحلية والإقليمية والدولية . بمعنى أن القراءة الصحيحة والدقيقة هي التي يوضحها جدول الأرباح والخسائر الإيراني في الحالتين معاً: حالة استمرار الوجود الأمريكي في العراق، وحالة الرحيل . ضمن الإيرانيون تحقيق احتلال غير مباشر للعراق، من دون تقديم ثمن لذلك . فهم يسيطرون الآن على جميع مرافق الدولة العراقية، ويرسمون سياساتها، ولم يعد موضع شك وجود مقرات أمنية واستخباراتية إيرانية في مناطق الجنوب العراقي . وهناك تقارير دولية تشير إلى سطو إيراني على نفط البصرة، واستيلاء بالكامل على بعض حقول الإنتاج في المناطق القريبة من الحدود، بدعوى تبعيتها لإيران .
كما ضمن الإيرانيون تأجيل المواجهة الغربية مع إيران حول الملف النووي . فتعقيدات الملف العراقي وتشابك العلاقة بين مصالح إيران والإدارة الأمريكية، أصبحا عاملاً رئيسياً في لجم المواجهة العسكرية مع إيران، لتدمير منشآتها النووية . إن انسحاب الأمريكيين من العراق، يعني تحررهم من قوة ضغط الملف العراقي عليهم، بما يمكنهم من التفرغ لمواجهة إيران .
خروج الأمريكان من أرض السواد، سيجعل الإيرانيين وعملاءهم في مواجهة محتومة مع المقاومة والشعب العراقي . فهم لن يتركوا لشعب العراق الحرية في الإمساك بزمام مقاديره، ويضحوا بما غنموه من حضور سياسي وأمني واقتصادي بعد الاحتلال الأمريكي . وسيجد المقاومون العراقيون أنفسهم في حرب لا مفر منها لكبح جماح التدخل الإيراني في شؤون بلادهم، إضافة إلى ما هو متوقع من مواجهة بين أمريكا وحلفائها في الغرب والكيان الصهيوني لحسم ملف إيران النووي .
وبالنسبة للأمريكيين، فرغم وعود الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق هذا العام، لكن من الصعب تصور حدوث ذلك، نهاية هذا العام . والقراءة التاريخية تؤكد أن الأمريكيين، منذ دخولهم على المسرح الدولي بقوة بعد الحرب الكونية الثانية، لم ينسحبوا باختيارهم من أي بلد تمكنوا من دخوله .
لكن ذلك سيبقى موضوعاً مؤجلاً للمناقشة في حديث آخر بإذن الله .
التعليقات