عادل الطريفي
نشأ في مصر في أوائل القرن العشرين تيار فكري متأثر بالمد القومي العربي، وكان من أبرز طروحاته الدعوة إلى تحديث مصر، وذلك بالابتعاد عن النموذج التركي العثماني بوصفه مصدر التخلف والتبعية، ولكن بعد مرور قرابة المائة عام ها هو قطاع لا يستهان به من النخبة في مصر يطالب بتقليد النموذج التركي. فالإخوان يشيدون بتجربة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، بينما الجيش يلمح إلى دور نظيره التركي في المحافظة على مدنية وعلمانية الدولة بوصفه الضامن للدستور، حتى الأحزاب التقليدية، كالوفد، دعت بشكل علني المجلس العسكري إلى laquo;تطبيق النموذج التركيraquo;، ولعل السؤال المهم هنا: هل يصلح النموذج التركي لمصر؟
في تقرير بعنوان laquo;جنرالات مصر قد يحافظون على دور كبير في الحكمraquo; (laquo;واشنطن بوستraquo;، 17 يناير - كانون الثاني)، نقلت الجريدة عن عدد من قيادات المجلس العسكري أنهم يفكرون جديا في أن يلعب الجيش دورا مماثلا للوضع التركي، بحيث يسلم الحكومة إلى أحزاب مدنية منتخبة، ويحتفظ بحقه في إدارة شؤونه - وبالذات موازنته - والتمتع بالحصانة لكي يقوم بدور الضامن والحامي للدستور. يقول أحد أعضاء المجلس (من دون ذكر اسمه): laquo;نريد نموذجا مثل تركيا، لكننا لن نفرضه.. مصر، كدولة، محتاجة لذلك لحماية ديمقراطيتنا من الإسلاميين. نحن نعرف أن هذه الجماعة (أي الإخوان) لا تفكر بطريقة ديمقراطيةraquo;.
النموذج التركي جذاب لبعض النخب المصرية، ولكن لأسباب - أو زوايا - متعددة ومتناقضة؛ يريد الإخوان فرصة ومساحة للحكم بشكل غير مباشر بحيث يتمكنون من دعم تحالف انتخابي يمثلون فيه الأكثرية، ولكن يحتفظون لأنفسهم بمساحة كافية بعيدا عن أن يكونوا في الواجهة. في الوقت ذاته، يرغب الإخوان أن يستمر ضغط الدول الغربية على المجلس العسكري المصري بحيث يؤمنون التجربة الانتخابية من خطر الانقلابات العسكرية مستقبلا، أي تركيا ما بعد عام 2002. الجيش من جهته يريد وضعا يمكنه من الإشراف على الدولة بشكل غير مباشر، والتدخل متى ما أحس أن تيارا أو حزبا بدأ يتهدد وضعه الاستثنائي في الدولة، أي تركيا ما بعد عام 1980.
حتى شخصيات مثل محمد البرادعي والسيد البدوي وحمدين صباحي وآخرين ممن يمكن تصنيفهم كأحزاب صغيرة أو مستقلين، هؤلاء أيضا يريدون نموذجا تركيا، لكنهم يريدون تركيا التعددية التي تمكن حتى الأحزاب الصغيرة والأقليات من المشاركة السياسية، بحيث لا تهمش أصواتهم من قبل حزب الأكثرية، أي أنهم ينظرون إلى نموذج تركيا ما بعد عام 1995، حين احتاجت الأحزاب التركية الكبيرة إلى إشراك المستقلين والأقليات لتضمن وجودها في نصف المناطق الانتخابية كما ينص قانون الانتخابات.
على الرغم من هذا الحماس الخطابي في استلهام النموذج التركي الناجح، فإن مصر ربما تكون غير مؤهلة للسير في خطوات النموذج التركي لأسباب كثيرة، لعل أكثرها وضوحا هو اختلاف التجربة التاريخية؛ فتركيا دولة تحولت إلى النموذج العلماني الغربي، وتمكنت من تحويل أنظمتها واقتصادها إلى نموذج للدولة الأوروبية الصناعية في النصف الأول من القرن الـ20، ولهذا لم يكن عسيرا على تركيا أن تصحح مسارها في عام 2002، بحيث تعدل قوانينها التجارية لتتوافق مع السوق الأوروبية المشتركة، وتسير في خط إصلاحي تشريعي في محاولة منها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. صحيح أن حزب العدالة تراجع عن حماسه للانضمام إلى الاتحاد بعد انتخابات 2007، لكن خلال السنوات الـ5 التي قضاها في الحكم قبل ذلك قام بجملة إصلاحات ليبرالية ليتوافق مع شروط العضوية الأوروبية مكنته من تحقيق النمو بحيث بات مثل الطالب الذي استعد جيدا للاختبار ولكن لم يسمح له بحضوره، ولكن بقي لديه حس الجدية وثقافة صلبة مما تعلمه.
على النقيض من ذلك نجد مصر، التي تخبطت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث انزلقت في متاهات الناصرية زمنا، قبل أن تأكلها الحروب الخاسرة اقتصاديا وتنمويا في الستينات والسبعينات، وحتى بعد أن تمكن السادات من فرض السلام واستعادة الأرض على الرغم من معارضة (أغلبية) النخب المصرية، لكن مصر لم تقم بعد ذلك ببناء اقتصاد مبني على التنوع الصناعي والاستثماري، بل استمرت في تضخيم أجهزة الدولة وتقديم دعم حكومي للسلع والمنتجات وكأنها دولة ريعية تمتلك احتياطيات هائلة من الموارد الطبيعية، بل يمكن القول إن أحد جوانب النقمة والثورة ضد النظام السابق جرى لأنه حاول إجراء إصلاحات اقتصادية عن طريق الخصخصة، والاستثمار الأجنبي. صحيح أن الفساد كان كامنا في المرحلة التي شهدت فيها مصر محاولة لتحرير التجارة وتقليص الدعم لتخفيض العجز، لكن الفساد لم يكن يختلف عن المراحل السابقة في مصر من حيث الحجم، وتقارير المؤسسات الدولية شاهدة على ذلك.
مصر لا تملك أن تكون تركيا؛ لأنها لا تملك رأس المال الاجتماعي والعلمي الذي يمكنها من تصحيح وضعها الاقتصادي، فهي دولة ربما تنتج أكبر عدد من الخريجين الجامعيين في العالم العربي، لكن مستوى تأهيلهم ضعيف ومتواضع؛ لأنهم نتاج نظام تعليمي مجاني ومتأخر، ولهذا السبب ليست هناك جامعة مصرية في قائمة أهم 450 جامعة في العالم. تصدر مصر ما يقارب 9 آلاف كتاب مقارنة بـ35 ألف كتاب تصدرها تركيا، وعلى الرغم من ذلك فأغلب تلك الكتب ليست في علوم حديثة، وهي سمة غالبة على الدول العربية كلها بما فيها دول الخليج.
دعونا نجرِ مقارنة اقتصادية بين تركيا في التسعينات ومصر اليوم، فكل من البلدين متقارب من حيث التعداد السكاني، وكانت تركيا مقاربة لما عليه الاقتصاد المصري قبل الثورة، فالناتج الإجمالي المحلي للفرد الواحد (GDP Per Head at PP)، كان يوازي 5500 دولار. أما في مصر فبلغ 3200 دولار نهاية عام 1998. ولكن خلال عقدين من الزمن، ارتفع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي إلى 14700 دولار في تركيا، مما يجعلها غنية وفقا لمقاييس البنك الدولي، بينما لم تتجاوز العام الماضي في مصر 6300 دولار. في العام الماضي، بلغ عدد السياح إلى تركيا 28 مليونا، بينما لم تحقق مصر ذات الحضارة الفرعونية العظيمة إلا 11 مليونا. يبلغ حجم الاقتصاد العام (الحكومي) من الاقتصاد الكلي أكثر من 40%، ويملك الجيش المصري وحده قرابة 10% على الأقل، ويبلغ حجم العجز مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي أكثر من 11%، بينما في تركيا لا يزيد على 3% فقط.
ماذا تعني هذه الأرقام؟ ببساطة: مصر laquo;الثوريةraquo; تحتاج إلى تقليص العجز في موازنتها بتخفيض الدعم الحكومي خلال العقد المقبل حتى تصل إلى 3%، وهي مهمة مستحيلة مع توقف السياحة والاستثمار الأجنبي، وتعثر الإنتاج، وزيادة الإنفاق الحكومي وتلاشي الاحتياطيات المصرية في الخارج، ناهيك عن التدهور الأمني والاضطراب السياسي الذي قد يستمر بضعة أعوام على أقل تقدير.
ليس هذا فحسب، فمصر تعاني تنامي الراديكالية الثورية التي لم تكتفِ بتغيير الرئيس ورموز حكمه، بل وتطالب بإعادة صياغة سياسة مصر الخارجية بتوجه راديكالي ضد دول الخليج والتهديد بالتقارب مع إيران. في الوقت ذاته يبدو المجلس العسكري عاجزا عن مواجهة الفوضى الثورية المنفلتة في ميدان التحرير، وحتى الإخوان الذين يقال إنهم أقوى قوة تنظيمية يبدون غير قادرين على مصادمة التوجه الثوري في الشارع المصري.
مصر قد تنزلق إلى حالة راديكالية ثورية، أي أن الجيش والإخوان قد يصلان إلى قناعة بأن أفضل طريق للفوز بالشارع المصري هو اللجوء لخطاب راديكالي شعاراتي يلبي التطلعات الثورية للشارع، وهذا سيقود مصر إلى نموذج باكستان لا نموذج تركيا؛ حيث يسقط البلد في فوضى أمنية ويصبح النزاع بين العسكر والإسلاميين على الحكم عبر المزايدات واللجوء إلى استدامة عداوات ومعارك في الداخل والخارج.
ما لم تصحح مصر هذا المسار الفوضوي وتستعِد الاستقرار، فإن فرص تعافيها الاقتصادي تتضاءل يوما بعد يوم. يقول أحمد هيكل لمجلة laquo;إيكونومستraquo; (23 يونيو ndash; حزيران): laquo;إذا وضعنا الأشياء في نصابها الصحيح، فإننا ndash; المصريين - قد نكون تركيا في غضون 10 أعوام. أما إذا أخفقنا، فسنتحول إلى باكستان في 18 شهراraquo;.
التعليقات