عبد الباري عطوان


ما زال السيد نبيل العربي، الامين العام لجامعة الدول العربية، ينتظر رداً من الحكومة السورية على طلبه زيارة دمشق، على رأس وفد عربي، بتكليف من وزراء الخارجية العرب، لحمل مبادرة عربية الى القيادة السورية تتضمن 'بعض الافكار' لحل الازمة الراهنة.
يبدو ان انتظار السيد العربي سيطول، فقد وزعت السفارة السورية في القاهرة بياناً اعربت فيه عن تحفظها الشديد على فقرة وردت في البيان الختامي الصادر عن الجامعة، الذي طالب 'بوضع حد لإراقة الدماء وتحكيم العقل قبل فوات الأوان'، والاعراب 'عن انزعاجهم وقلقهم ازاء ما تشهده الساحة السورية من تطورات خطيرة ادت الى سقوط آلاف الضحايا بين قتيل وجريح من ابناء الشعب السوري الشقيق'. ودعا الوزراء العرب الى 'احترام حق الشعب السوري في الحياة الكريمة الآمنة، وتطلعاته المشروعة نحو الاصلاحات السياسية والاجتماعية'.
الانزعاج السوري من البيان مفهوم، ولكنه غير مبرر، ففي سورية انتفاضة شعبية تتصدى لها قوات الامن بالرصاص الحي، مما يؤدي الى سقوط آلاف الاشخاص قتلى وجرحى، وهناك من يقدر عدد الشهداء حتى الآن بحوالى 2300 شخص.
ولذلك فإن وصف البيان السوري الرسمي المطالبة بحقن الدماء بانه تدخل في الشأن الداخلي السوري في غير محله، لان هذه المطالبة صادرة عن جامعة عربية تتمتع فيها سورية بالعضوية الكاملة، والاكثر من ذلك ان سورية شاركت في مساندة بيانات طالبت بالتدخل الاجنبي في ليبيا، صدرت عن وزراء الخارجية العرب انفسهم، لحماية المدنيين من مجزرة كان يعد لها النظام الليبي في حقهم في مدينة بنغازي.
المبادرة العربية لم تطالب (حتى الآن على الاقل) بخطيئة التدخل الاجنبي، ولم تسحب الشرعية من النظام (حتى الآن ايضاً) استجابة لضغوط امريكية، ومحاكاة لتصريحات ادلى بها الرئيس الامريكي باراك اوباما، ولذلك يجب التعاطي معها بمرونة، لان السلطات السورية التي تعيش في عزلة دولية لا يجب ان تستعدي العرب جميعاً، مثلما نجحت في استعداء تركيا ومعظم الدول الغربية.
الحلول الامنية التي لجأت اليها السلطات السورية بشراسة، لم تنجح في وقف هذه الانتفاضة الشعبية، بل زادتها اشتعالاً، والا لما استمرت لاكثر من ستة اشهر متواصلة، سقط خلالها المئات بل الآلاف من الضحايا.
' ' '
نعم هناك مسلحون يطلقون النار على قوات الامن التي تهاجم المتظاهرين وتقتحم المدن والقرى، ولكن هؤلاء اقلية واستثناء، فالغالبية الساحقة من المحتجين هم من العزل، وشاهد العالم بأسره هؤلاء وهم يستخدمون حناجرهم في التعبير عن رغباتهم في الاصلاح والتغيير الديمقراطي في بلدهم.
نعم هناك مؤامرة خارجية، ولكن هذه المؤامرة لا تواجه بصب المزيد من الزيت على نيران الاحتجاجات، وانما باحتوائها من خلال الحوار والتجاوب بجدية مع مطالب الاصلاح، وليس بارسال الدبابات ووحدات الجيش الى المدن، وقتل الآلاف من المحتجين.
ايران الحليف الاكبر لسورية في المنطقة شهدت احتجاجات شعبية ضخمة، مدعومة بمؤامرات خارجية، تهدف الى الاطاحة بالنظام، مدعومة ايضاً بمنظومة اعلامية ضخمة، ولكن ادارة السلطات الايرانية للأزمة كانت في غاية الذكاء والحكمة، لا نقول ذلك مدحاً، وانما من منطلق الموضوعية المهنية، فلم يزد عدد القتلى في احداث الثورة الشعبية الايرانية المطالبة بالاصلاح الديمقراطي والاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية الاخيرة عن 26 شخصا نصفهم تقريباً من رجال الامن.
في درعا وحدها حيث اندلعت شرارة الانتفاضة سقط اكثر من مئة شخص في الايام الاولى للاحتجاجات، علاوة على العشرات اثناء عمليات التشييع، ولم تشر السلطات السورية نفسها في حينها الى وجود مسلحين او مندسين، واعترفت بسوء ادارة الأزمة، بعزل محافظ المدينة، ولقاء الرئيس السوري شخصياً بقادة العشائر في المدينة.
وطالما اننا نتحدث عن ايران، فإن البيان الذي صدر عن وزير خارجيتها الذي طالب الرئيس السوري بشار الأسد 'باحترام المطالب المشروعة لشعبه' يعتبر رسالة على درجة كبيرة من الأهمية من حيث معانيه وتوقيته، خاصة ان هذا البيان عبر 'عن القلق من تدخل حلف الناتو في سورية' على غرار ما حدث في ليبيا.
الربط هنا واضح بين 'المطالب المشروعة' للشعب السوري و'التدخل الخارجي'، بمعنى ان غياب الاولى قد يؤدي الى حدوث الثاني، اي تدخل قوات الناتو. وان كان البيان الايراني حذر من خطورة مثل هذا التدخل ومن نتائج مماثلة لما حدث في العراق وافغانستان.
' ' '
التحذير الايراني في محله، فسورية ليست مثل ليبيا، والنظام فيها ليس معزولاً في محيطه، بل هو جزء من منظومة تضم ايران، الدولة الاقليمية العظمى، علاوة على حزب الله الذي يملك ترسانة هائلة من المقاتلين الاشداء والاسلحة الحديثة التي اثبتت فاعليتها في التصدي للعدوان الاسرائيلي عام 2006 وهزيمته.
وفوق كل هذا وذاك وجود جيش سوري قوي, واجهزة امن داخلية ملتفة حول النظام، ولم تتعرض اي من المؤسستين العسكرية او الامنية في سورية الى اي انشقاقات حتى الآن على الاقل.
السؤال الذي يطرح نفسه هو عن مدى استعداد ايران للانخراط في حرب اقليمية في حال تطورت الامور الى هذا الحد، بفعل تدخل حلف الناتو بمشاركة تركيا او دول اخرى في الأزمة السورية.
من الصعب علينا الاجابة على هذا السؤال، ولكن ما يمكن التكهن به هو ان الجيش الايراني لم يحارب مطلقاً خارج حدود بلاده طوال العقود الماضية الا في حال اضطر الى ذلك، مثلما حدث في الحرب الاخيرة مع العراق، حيث يؤكد الايرانيون ان العراق هو الذي بدأ في الهجوم، وهي رواية ظلت موضع جدل من الجانب العراقي.
روسيا التي ترسل اشارات حول دعمها لسورية تخلت عن العراق عندما تعرض للعدوان الامريكي عام 2003، رغم انها حصلت على عقود تجارية قيمتها 45 مليار دولار، كما انها تخلت عن صربيا حليفها الارثوذكسي التقليدي والاوثق في اوروبا، ولم تحرك اصبعاً واحداً عندما كانت الصواريخ الامريكية تدك بلغراد.
ما نريد قوله ان الحكومات الاجنبية تتحرك انطلاقاً من مصالحها، وليس بناء على عواطف او مجاملات سياسية، هذا لا يعني ان التدخل الايراني بالذات ليس وارداً، في حال تعرض سورية لعدوان او تدخل من حلف الناتو.
المخرج من الأزمة في سورية قد يكون سياسياً بعد فشل الحلول الامنية، وربما تكون المبادرة العربية طوق نجاة في هذا الصدد، ولذلك لا يجب اغلاق الباب كلياً في وجهها، ولذلك نأمل ان نرى السيد نبيل العربي امين عام الجامعة والوفد المرافق له في دمشق قريباً جداً، لان سورية ليست بحاجة الى خلق الاعداء، وانما بحاجة الى حقن دماء يليه تغيير ديمقراطي جدي وحقيقي، تبدأ ارهاصاته فوراً دون ابطاء او تأخير. أليس 'تعريب' الازمة السورية افضل كثيرا من تدويلها؟