ميناء مبارك..صخور السياسة وأحراشها

عبدالله بشارة

الوطن الكويتية

تتواصل التعليقات من بعض المسؤولين العراقيين عن خطورة ميناء مبارك على مستقبل الملاحة العراقية وتأثيره على الاطلالة العراقية البحرية على الخليج، وتأتي، كحصيلة لهذه التعليقات، مداخلات كويتية عن افتقار ردة الفعل العراقية للدقة، وابتعادها عن حقيقة الوضع حول الميناء الذي لا يؤثر في الملاحة العراقية ويقام الآن على الأراضي الكويتية بعيدا عن خط التماس مع العراق، وأعتقد بأن هذه الضجة العراقية التي يحركها عدد من السياسيين هي نتاج الوضع السياسي العراقي المعقد والمرتبك القائم على صيغة المحاصصة والطائفية والاثنية والمذهبية، كل ذلك على حساب المواطنة كما نعرفها، وفق مفهوم العصر، التي يرتفع فيها الولاء للوطن وليس للطائفة، للأرض وليس للقبيلة، لسيادة القانون وليس لمنافع الكتل، فدستور العراق الحالي لن يأخذ العراق الى دولة العصرنة والتحديث، ولن يأت بتميز حق المواطنة على غيرها، وانما سيجلب التفكك الوطني والتفتت السكاني كبديل عن الولاء الوطني العام.
ففي الشمال ينعم الأكراد بالاستقلال الذاتي ضمن الفيدرالية العراقية، كما يتجزأ الجنوب بالطائفية الشيعية، ويصرخ أبناء السنة في الوسط باحثين عن دور يحقق لهم حصة في رسم دورهم، ولا يملك رئس الوزراء الحالي laquo;المالكيraquo; القدرة على اتخاذ القرار الاستراتيجي الغليظ الذي يثير الآخرين، ولذلك لم يحسم ما يريد من الولايات المتحدة وبقاء قواتها التي يريدها البعض ويعارضها الآخرون، وعلى هذا النهج فلن يتمكن المالكي بوضعه الدستوري الحاضر من انهاء ملف العلاقات مع الكويت.
ورغم الوعود التي كررها حول ارسال الالتزام العراقي الذي يجدد تأكيد العراق على ترسيم الحدود مع الكويت والتي تنتظرها الأمم المتحدة، لم يتخذ الاجراء المناسب حول صيانة العلامات الحدودية وفق ما تتوقعه الأمم المتحدة، ولم يعبأ بالاستفادة من التعويضات التي قدمتها الكويت للمزارعين العراقيين، ويعلم رئيس الوزراء أكثر من غيره بأن حكومته هي ثمرة التركيبة الطائفية وليست حكومة الاجماع الوطني، وبقاؤها مرهون أيضا بدعم طائفي من البرلمان الذي أفرزته خريطة التوزيع الطائفي.
ومع ادراك المالكي لهذا الوضع تبنت حكومته نهجا جديدا، ليس فيه مطالبات بخروج العراق من الفصل السابع، فلا تبذل الآن حكومة بغداد جهودا في الأمم المتحدة يخلص العراق من أعباء حددتها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالغزو، واكتفى العراق بتكرار سخطه على آلية التعويضات التي يسعى للتخلص منها بوسائله الخاصة، متجاهلا البنود الأخرى، حول الحدود والصيانة والمزارع والأرشيف.
عدت منذ أسبوع من نيويورك، حيث قضيت فيها أسبوعين، وقابلت بعض الدبلوماسيين الأجانب والعرب، وجميعهم مشغول بقضايا أخرى مثل الارهاب والتنمية والبيئة وتحولات المناخ والمجاعات، ومعنى ذلك ان الملف الكويتي- العراقي ليس من الأولويات وليس فيه ما يدعو للمتابعة، ولا يقلق أحدا هناك.
في هذا المناخ المتغير، لايجد العراق ما يدعوه للوفاء بما تريده الكويت والأمم المتحدة، فهو قادر على الاستمرار في تصدير النفط والتكيف مع الوضع الراهن مستفيدا من قدرته على الابتكار والارتجال.
والحقيقة ان العراق الفيدرالي حسب الخريطة السياسية الحالية، ليس في وضع يمكنه من التعاطي مع ملف العلاقات مع الكويت وفق ما نريده وما تتوقعه الأمم المتحدة منه، فنلاحظ بأن العراق وضع ملاحظاته على ميناء مبارك بمعزل تام عن ملف الحدود والغزو، مثيرا اعتراضات على مسارات الملاحة وضيق المعابر الى مياه الخليج، في توظيف لغوي بعيدا عن الأيديولوجيات البعثية القديمة حول المصالح العربية العليا التي تستحق التساهل في قضايا السيادة، واستبدالها بحق العراق في الممر المائي الآمن، وتتوقع حكومة العراق ان تقف على حل مرضٍ من جانب الكويت، دون ان تتداخل قضايا الحدود فيما يمكن الحصول عليه.
هذه التوقعات العراقية لا تستند على قانون ولا على حقائق وتثير الشكوك والريبة، وأعتقد ان المسؤولين في العراق لم يدركوا حجم الاهانة والغضب الذي خلفه الغزو في نفسية الكويتيين، ولم يبذلوا جهدا مقنعا لكسب ثقة الكويتيين وطمأنتهم، ولن يقدموا القرار التاريخي الذي يريده الكويتيون حتى لو اتخذت الكويت خطوة مقبولة حول ميناء مبارك.
كنا نتمنى ان نرى العلاقات الكويتية-العراقية تقتدي بنظام laquo;البنلوكسraquo; الذي يجمع هولندا وبلجيكا ولكسمبرج في اطار تجاري واستثماري مفتوح، تجاوزت فيه هذه الدول الحساسيات وتمتعت بعلاقات أساسها المنافع والمصالح المشتركة، لكن الكوابح الطائفية والاثنية والصيغة الدستورية العراقية لا تبعث على التفاؤل.
ويشتد الضغط السياسي الطائفي على رئيس الوزراء، متمثلا في طلب الحكومة العراقية من حكومة الكويت وقف العمل في مشرع بناء ميناء مبارك الى حين التأكيد من ان حقوق العراق في المياه المشتركة لن تتأثر، ويرد الوزير علي الراشد بأن الكويت لن تقبل ان تكون حجر عثرة أو سببا في أذى أو احداث مشكلة لجيرانها، لكنها لن تقبل المساس بسيادتها، وأن ميناء مبارك ضمن السيادة.
لن يستفيد البلدان من التبادلية في التصريحات والاثارات، وليس من الحكمة استحضار التصريحات من النواب الذين تحولوا جميعا الى وزراء وناطقين رسميين حول هذا الموضوع.
ويحتاج الأمر من البلدين الى جرأة سياسية وقرار يتميز بالخيال السياسي والاقتحامية الاستراتيجية التي تزيل أورام الجمود المتراكمة منذ زمن على علاقات البلدين، فلا العراق بتركيبته الحالية قادر على القرار التاريخي، ولا الكويت التي يتحكم بقرارها مجلس الأمة المضطرب سياسيا والمتواضع فكريا، مؤهل للقيادة الاقتحامية.
ومع كل هذا الجمود، أتمنى ان تبادر الكويت وبكل ديناميكية، وأن تعلن بأنها ستحول كل التعويضات الى مشروع تنموي داخل العراق، بمشاركة عراقية ndash; كويتية، وأنها قادرة على التنازل عن الديون المتراكمة على العراق، مع فتح قنصليات في منطقة الأكراد وفي الجنوب، وتدشين حوارات سياسية واستثمارية مع جميع الطوائف والأطياف، من أجل تجذير التفاهم وغرس مبادئ حسن الحوار، وترك موضوع ميناء مبارك لتقرير الخبراء العالميين وحكمهم على مدى اضراره بالعراق.
ولا يجب ان تتردد حكومة الكويت في توضيح المصالح العليا للدولة وسلامتها الأمنية الى أعضاء مجلس الأمة الذين هم وطنيون موالون للوطن، حريصون على مصالحه اذا ما قدمت لهم الحكومة مشروع الانماء المستقبلي مع العراق.
وعلى العراق ان يوضح نقطة مجهولة للكويت، وأهم ما فيها هل العراق، بعد ان تتم هذه المبادرة الاستراتيجية الواسعة، قادر على الامتثال لشروط الأمم المتحدة ومبادئ الثقة المتبادلة وحسن الجوار؟ وهل يستطيع المالكي ان يعطيني الجواب على التزام العراق؟ هذه هي المشكلة، وحلها يمكن ان يوقف قطع صخور الحفر في ميناء مبارك.
مأساة العراق تكمن في النفور بين أبناء الوطن الواحد، وخناقات السياسيين، ولعل السيد أمين الهويدي، سفير مصر في العراق 1965-1962، في كتابه (كنت سفيرا في العراق) أعطى أبلغ الأمثلة حيث يقول في صفحة 254، عن الرئيس العراقي عبدالسلام عارف [عافت شهيته الطعام، وعز عليه النوم، ولا يذهب الى فراشه إلا بعد صلاة الفجر، وبعد ان يكون قد أمضى الليل كله ساهرا يفتش على حراس القصر الجمهوري، وذهبت به الوساوس الى الحد الذي لمسته بنفسي عند زيارتي اليه في الليل والنهار، اذا ما كادت حجرة نومه تحتوينا حتى يقوم بنفسه بقفل الحجرة بالمفتاح والمزلاج خوفا من اقتحام مفاجئ يقوم به خصومه..الى آخر اجراءات الوقاية من كيد الأصدقاء والحلفاء]..وهل تبدلت النفوس؟
وكل عام وأنتم بخير ومبروك عليكم شهر رمضان الكريم،،

الكويت والعراق...استمرار الحرب الباردة !

عبدالله خليفة الشايجي


الإتحاد الأماراتية


يصادف غداً الثلاثاء 2 أغسطس 2011 الذكرى الحادية والعشرين لتلك المحنة المؤلمة للكويتيين وجميع العرب، وهي ذكرى غزو واحتلال قوات نظام صدام حسين لدولة الكويت الجارة الصغيرة، التي لم تكتف قواته بأن تحتلها فقط وتعيث فيها فساداً على مدى سبعة أشهر دموية عجاف، بل لقد شطب صدام نفسه أيضاً الكويت من الوجود وألحقها كمحافظة حملت الرقم 19. ولذا فقد كان ما حدث كارثيّاً بكل معنى الكلمة. إذ لم يحدث في تاريخنا العربي الحديث أن تحتل دولة عربية وتشطب وتلغي جارتها العربية! نعم حدثت هناك وصاية من دولة على أخرى، وحتى احتلال ناعم، ولكن لا يوجد شيء شبيه بما فعله العراق بالكويت، بإلغائها وجوداً وحدوداً وكياناً وشعباً.
كما أن فشل النظام العربي أيضاً كان مدويّاً. وهو النظام نفسه الذي اعتمدت عليه الكويت بعد تهديدات الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم بعد أسبوع من اسىتقلالها عام 1961، الذي استبدل النظام الأمني البريطاني وإصرار الكويت على البقاء على الحياد إبان الحرب الباردة، وكذلك رفضها للقواعد الأجنبية سواء كانت غربية أم شرقية، أميركية أم روسية. وقد زاد ذلك من رصيد وقدرة الكويت لتكون طرفاً مؤثراً على مدى ثلاثة عقود حيث ظلت تلعب دوراً فاعلاً في النظام العربي، وتساهم عن طريق قوتها الناعمة بتقديم الدعم التنموي للدول العربية من خلال أول صندوق للتنمية في دولة نامية أعطت من خلاله الكويت قروضاً تنموية ميسرة للدول العربية وغير العربية، سواء أكانت دولاً كبيرة أم صغيرة، بعيدة أم قريبة، وحتى للعراق نفسه، وقد وصلت القروض الكويتية الجميع، بما في ذلك الصين، مما رفع من أسهم النموذج الكويتي الذي أضاف لهذا البعد الاستراتيجي والتنموي أيضاً دبلوماسية الوساطة الناجحة في صراعات عربية- عربية، وحتى بين دول غير عربية كالهند وباكستان على خلفية صراعهما حول كشمير. وقد عززت الكويت ذلك كله بنظام ديمقراطي مميز، وأول دستور مكتوب وبرلمان منتخب وفعال في المنطقة يسقط حكومات.

لقد شكل احتلال صدام للكويت، وعجز النظام العربي عن ردعه أولاً أو إجباره على الانسحاب من الكويت، فشلاً عربيّاً ذريعاً سواء للجامعة العربية أو لمنظومة الدفاع العربي المشترك. ولم ينجح سوى تحالف دولي بمشاركة خليجية وعربية وبقيادة أميركية في طرد قوات صدام من الكويت، ما غير من تضاريس وتركيبة المنطقة، وكرس تدويل الشأن العربي والأمن الخليجي. وقسّم العرب إلى عرب quot;المعquot; وquot;الضدquot;، ولاحقاً محور الاعتدال والتشدد الذي يُفضل أن يُعرّف بمحور الممانعة، ومن ثم لتتم عسكرة المنطقة. وقد طاردت لعنة الكويت صدام ونظامه وشكلت العد التنازلي لزوالهما. واختل النظام الأمني الإقليمي بسقوط العراق وحصاره ومن ثم إسقاط نظام صدام نفسه الذي لا يملؤه اليوم سوى الوجود والبقاء الدولي وخاصة الأميركي، وبقينا نسدد الفواتير والاستحقاقات حتى يومنا هذا.

لقد كتبنا في هذه الصفحات، وفي دراسات علمية خلال الأعوام الماضية، العديد من المقالات حول العلاقة الملتبسة والمعقدة بين الكويت والعراق. وما سطرناه يحمل الكثير من القلق والهواجس التي ترفض أن تموت وتُدفن بين البلدين. كما كتبت عن أشباح الماضي التي تلوح في الأفق، وعن القضايا العالقة والاستحقاقات المعطلة التي يتلكأ العراق عن تنفيذها تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن كنتيجة للعدوان والاحتلال العراقي لدولة الكويت، وإلا بقي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وفي المجمل فقد بقيت العلاقة بين الكويت والعراق فاترة وباردة على رغم تحسن العلاقات وإعادة فتح السفارات وإرسال السفراء، وتبادل زيارات رسمية لكبار المسؤولين في البلدين، وزيارات لوزراء، ولجان مشتركة ووفود إعلامية وأكاديمية.

ولكن العلاقة بين الكويت والعراق ظلت تمر بمد وجزر وتعايش ملتهب تحركها مواقف وتحذيرات وتعليقات رسمية وبرلمانية وأكاديمية تنبش الماضي، وتعيد أشباحه، مثل المطالبات بإعادة النظر في الحدود والتعويضات والديون. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن نسبة لا يُستهان بها من العراقيين لا تزال مقتنعة بنظرية الفرع الكويت والأصل العراق. وأن الكويت جزء quot;سليبquot; من العراق ولابد من استعادته! لتنفخ هذه المواقف، في كل مرة، النار تحت الرماد!

أما الجولة الأخيرة من التصعيد العراقي ضد الكويت فكانت خلال استهداف للمنطقة الخضراء بسقوط قذائف quot;كاتيوشاquot; قرب السفارة الكويتية مما استوجب إخلاء طاقم السفارة بعد أن ادعى quot;جيش المهديquot; مسؤوليته عن القصف. وتبعت ذلك تحذيرات من كتائب quot;حزب اللهquot; العراقي باستهداف الشركات التي تبني ميناء مبارك الكبير، المشروع الاستراتيجي الكويتي المهم الذي سيربط بمراحله الثلاث آسيا والخليج ببلاد الشام وأوروبا. وقد سبقت ذلك مظاهرات في الجنوب العراقي، ومطالبات من مسؤولين عراقيين آخرهم الحكومة العراقية نفسها، للكويت بوقف بناء الميناء مع أنه يقام على أرض كويتية هي جزيرة بوبيان، أكبر جزيرة في دول مجلس التعاون الخليجي. وقد أكدت الكويت مراراً وتكراراً أن الميناء لا يتعدى على المياه الإقليمية العراقية، ولا يؤثر على القناة المائية التي تربط خور عبدالله بميناء أم قصر العراقي. ومع ذلك يُصر الطرف العراقي على الاحتجاج، في مزايدة وتسييس واضحين للمسألة من طرف الحكومة العراقية وكياناتها المختلفة، وبأجنداتها المتعددة التي عادة ما تحرك إقليميّاً. واليوم أضيف إلى ذلك أيضاً لاعبون من غير النظام السياسي العراقي الرسمي ضمنهم ميليشيات كـquot;جيش المهديquot; وquot;كتائب الحقquot; وquot;كتائب حزب اللهquot; لتحذر كل هذه المنظمات وتهدد الكويت!

وجاء الرد الكويتي الرسمي على الطلب العراقي الرسمي الداعي لوقف البناء حيث رفضت الكويت تسييس الموضوع الذي تحله اللجان الفنية المشتركة، حتى لا يقتات عليه بعض النواب العراقيين وكتلهم تنفيذاً لأجنداتهم، ليرد عليهم أيضاً نواب كويتيون يثأرون ويردون بقوة على تهجم زملائهم العراقيين. وقد كنت في مناظرة مع أحدهم مؤخراً وصدمت بمطالبه المرفوضة والمستهجنة بإعادة ترسيم الحدود، بل إنه صدمنا جميعاً على الهواء مباشرة مدعيّاً زوراً أن جزيرة بوبيان عراقية!

وهكذا، للأسف نعلَق في الماضي ونجتر آلامه ونفشل بسبب حسابات وأجندات ضيقة ليس من ضمنها التطلع للمستقبل، هذا بدلاً من تحويل جزيرة بوبيان الاستراتيجية وميناء مبارك الكبير إلى فرصة للتكامل والشراكة والتعاون والتعايش مع العراق وإيران، مع أن المشروع يوفر على العراق عدة مليارات سيخسرها لبناء ميناء quot;الفاوquot; الكبير! إن كل هذا مؤلم ومحبط، فبعد واحد وعشرين عاماً من كارثة الاحتلال العراقي للكويت نبقى ندور في متاهات الماضي ونسمم الحاضر ونخسر المستقبل!