مأمون فندي


أهم عائق لدى اكتمال الثورات العربية هو ما يمكن تسميته بجغرافيا الخجل. فالعربي قادر على الثورة ضد البعيد المجرد، ولكنه يستحي كثيرا في الحديث عن عيوب القريب، فمثلا لأن حسني مبارك كان معزولا وبعيدا عن شعبه كان من السهل إعلان الثورة عليه، ولكن القوى ذاتها التي استطاعت أن تطيح بمبارك عن الحكم لا تستطيع أن تغير رئيس الحي أو محافظ الإقليم أو رئيس مجلس المدينة، أو حتى رئيس تحرير صحيفة، وذلك لأن العربي يستحي ممن يتعامل معه مباشرة ويراه رؤى العين. رئيس الحي أو عمدة القرية قريب جدا منا، ونراه كل يوم ونعرف فساده ويعرف فسادنا، ولذلك تكون في العين خشبة laquo;مش قشايةraquo; لا نستطيع أن نرفع عيوننا فيه، والسبب الرئيسي في ذلك هو الجغرافيا. الثورات لن تكتمل في مجتمعات تسودها جغرافيا الخجل. تلك المجتمعات التي لم تنتقل إلى عالم الحداثة، والتي تكون حتى مدنها الكبرى ليست مدنا بالمعنى الحقيقي، وإنما أحياء متراصة أو قرى متلاصقة أصبحت مدينة بحكم التلاصق وزيادة السكان. فالقاهرة مثلا رغم قدمها كحاضرة عربية، ليست مدينة بعد، فهي مجرد أحياء تقاربت فكونت مدينة، على أطرافها قرى مثل إمبابة والوراق وعين شمس وغيرها.. الناس في هذه الأحياء يستطيعون المطالبة بإزاحة مبارك، ولكنهم لا يستطيعون إزاحة رئيس الحي أو اتهام الفتوة بالفساد، ولهذا لم تتغير لا الصحافة ولا السياسة بعد تنحي الرئيس عن الحكم، لأن القريبين منا هم أقاربنا، وفسادهم من فسادنا، نتكلم عنه تلميحا ولا نستطيع أن نقول عنه كلمة واحدة تصريحا.

ثورة 23 يوليو (تموز) فشلت، لأنها فقط أزاحت الملك عن الحكم، أما أقاربنا في النسق الثاني من الحكم ابتداء من العمد إلى رؤساء الأقاليم إلى الوزراء فبقوا كما هم، لم يتغيروا، حتى الباشاوات الذين كانوا رمز الفساد في الكلام النظري للثورة، هم من تزوج العسكر من بناتهم، إما لتحسين النسل أو لتحسين الأنساب، وبقيت الدنيا على حالها.

وكما ثورة 23 يوليو، نرى ثورة 25 يناير (كانون الثاني) تأخذ المنحى ذاته، فلم نر محافظا واحدا من محافظي الأقاليم ممن كانوا شركاء في الحكم وفي تزوير الانتخابات وضع في قفص الاتهام، حتى محافظ الإسكندرية الذي قتل خالد سعيد مفجر الثورة وهو في عهدته كمحافظ لم يحاسب، فقط انتقل من محافظ الإسكندرية إلى محافظ قنا، واستقبلته جماعة الحزب الوطني المحلية بالطبول والزمور. ليس لأنه رجل منجز، ولكن لأن حاملي الدفوف من أنصار الحزب الوطني المحلي هم أقاربنا، هم أدوات الديكتاتورية في عهد مبارك، ولكن لا نحاسبهم لأن الجغرافيا تحكمنا، فالذي لن نراه غدا في الصباح سنرى أولاده أو أقاربه أو أهل عشيرته، لذلك laquo;الجغرافيا كاسرة عينناraquo;، كما نقول في الصعيد، أي أننا نخجل من أن نكشف فساد الأقارب، فقط نصبح ثوريين في كشف فساد البعيد المجرد، ونصبح أبطالا أيضا في laquo;تشليحraquo; البعيد ونطالب له بأقصى العقوبة، لأننا لن نراه أو لم نره ولم يرنا، ولم تلتق العين بالعين في عالم جغرافيا الخجل.

laquo;أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريبraquo;، نفضل القريب دائما حتى لو كان فاسدا، والقرب درجات، الأخ قبل ابن العم، وابن العم قبل ابن الحارة، وابن الحارة قبل ابن laquo;المعرفش إيهraquo;. تلك هي القوانين الحاكمة لثوراتنا، ثورات خجولة تحكمها جغرافيا الخجل.

مصيبة 23 يوليو تتكرر اليوم في عدم قدرة الشعب على مواجهة الأقارب جغرافياً وأقارب علاقات الدم. فشلت 23 يوليو في تغيير العمدة ورئيس الحي ولكنها غيرت الملك، التحدي الأكبر للثورة ليس تغيير الرئيس ولكن تغيير رئيس الحي وتغيير المجلس المحلي وناظر المدرسة المحلية ومدير الإدارة، ولكن الشعب الخجول يستطيع تغيير الرئيس ولا يستطيع تغيير المحافظ أو المدير، وإلا فكيف أطاح الشعب برئيس يتهمه بالفساد ويستقبل محافظا بالطبول وهو كان جزءا من نظام ذلك الرئيس. التفسير في جغرافيا الخجل.

والمثل الشعبي يقول: laquo;اللي يخجل من بنت عمه ما يجبش منها عيالraquo;، ونحن لا نخجل من بنت العم في السياق الاجتماعي، ولكننا نخجل من ابن العم في السياق السياسي، رغم أنه ثبت علميا أن زواج بنت العم له أضرار جينية كثيرة ولا يوجد ما يبرره، وبالتالي لا داعي للخجل من أصله.

لن ينصلح حال الثورة المصرية إلا إذا قبلت التحدي، وهو أن الثورة تقوم من تحت أولا، على عمدة القرية وعلى رئيس الحي وعلى رئيس مجلس المدينة وعلى المحافظ، فإذا لم تغير الثورة أيا من هؤلاء فهي ما زالت ثورة أسيرة أو سجينة لجغرافيا الخجل. أتمنى أن يتجاوز المصريون جغرافيا الخجل، ولكنني أشك كثيرا في قدرتهم على ذلك، على الأقل ليس في هذا الجيل أو حتى الذي يليه. أمنيتي هي أن يستطيع الشعب أن يقول يوما ما: laquo;الشعب يريد تغيير رئيس الحي.. لا إسقاط النظام ولا تغيير الرئيسraquo;.. إن حدث هذا يوما ما، نكون وقتها نتحدث وبجد عن ثورة.