مالك التريكي

لن يكون من المستغرب إذا أظهر التحقيق تورط بعض الأطراف الحزبية، عبر 'منظماتها' الفوضوية وأذرعها الميليشياوية، في حادثة الاعتداء في سيدي بوزيد على رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني التأسيسي أثناء إحياء الذكرى الثانية لاندلاع الثورة. ولكن رغم أن الحادثة ربما تكون مدبرة سياسيا، فإن الرئاسة قد اتخذت الموقف المناسب عندما اكتفت بالدعوة إلى توعية الرأي العام بشأن وجوب احترام مؤسسات الدولة.
وتتضح أهمية هذه القضية الجوهرية - موقف المواطن من الدولة ومؤسساتها - بالرجوع إلى تقرير كانت التلفزة قد بثته قبل أسابيع من منطقة داخلية سبق لرئيس الدولة أن زارها في إطار تفقد أحوال البلاد. سأل الصحافي أحد المواطنين عن أوضاع المنطقة منذ اندلاع الثورة. كان يمكن للمواطن أن يجيب أن دار لقمان على حالها وأنه لم يتم تنفيذ أي من الوعود الرسمية بشأن مشاريع التنمية الاقتصادية وإحداث وظائف العمل (أو ما يسمى في تونس 'مواطن الشغل') للشباب العاطل. كان يمكن للمواطن أن يجيب بأن أهل المنطقة مستاؤون لأن الوعود لم تنفذ. فماذا اختار أن يقول؟ قال: 'لقد كذب علينا المرزوقي. جاء ووعدنا بالعمل على إحداث المشاريع وتوفير الشغل للشباب. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. لقد كذب علينا'.


تشير هذه اللهجة في الحديث عن رئيس البلاد إلى أمرين على الأقل. هي إشارة إلى مكسب ما كان ليتحقق لو لا نجاح الثورة الشعبية. هذا المكسب هو زوال الخوف من السلطات، أيا كانت. ولكنها إشارة أيضا إلى أن زوال الخوف، وما يتفرع عنه من رغبة لا قاهر لها في ممارسة الحق في حرية التعبير، قد أفضى إلى خلط واضح بين الصراحة والوقاحة. قد يجادل البعض بأن الوقاحة ما كانت لتبرز باعتبارها امتدادا واضحا، بل تجليا يكاد يكون وحيدا، لحرية التعبير لولا سقوط هيبة الدولة. وقد يجادلون، إغلاقا للدائرة، بأن سقوط هيبة الدولة ما كان ليحدث لولا استمرار حالة الانفلات الناجم عجز السلطات الرسمية عن بسط الأمن وضبط الأوضاع العامة وتلبية حاجيات المواطنين، خصوصا في مجال التنمية ومعالجة البطالة. ومؤدى هذا الرأي أن السلطات هي التي تتحمل وزر تحول حرية التعبير إلى مظهر من مظاهر التطاول على الدولة وانعدام الاحترام لمؤسساتها. أي أنه لو كان أداء السلطة في المستوى المطلوب، أو قريبا منه، لاكتست حرية التعبير صيغتها المفترضة ديمقراطيا، من حيث كونها إفصاحا متمدنا ولائقا، أيا كانت راديكالية الموقف والمضمون.
ولكن هذا الرأي مجانب للصواب. ذلك أن مظاهر التعبير الخارج عن اللياقة قد أصبحت سائدة حتى في الأوضاع التي يكون فيها الحوار دائرا بين أشخاص ليس فيهم أي من مسؤولي السلطة أو ممثليها. والسمة الغالبة على هذا التعبير الحر هو انعدام الاحترام للآخرين عموما وعدم الاعتراف بقيمة الكرام والأفاضل من الناس خصوصا. حيث يبدو أن هنالك رغبة، ربما تكون لاواعية، في الانتقاص أو النيل من أي شخص له اعتبار في المجتمع أو لدى فئة منه. واللافت أن هذا الموقف أصبح يتخذ شكل ممارسة اجتماعية متزايدة الحدة، أقل ما يقال فيها أنها إعراض عن 'حفظ المقامات' ومراعاة الأصول. أي أنها ارتكاس موضوعي إلى ما قبل العرف الاجتماعي.
ولا يفي بالغرض أن يقال، مثلا، إن لجميع الثورات فولكلورها، وإن التحلل من أعراف اللياقة الاجتماعية ومن قواعد المحاورة السياسية هو مجرد تقليد في فولكلور جديد هو فولكلور الثورة الشعبية التونسية. فهذا تفسير يتجاوز حد التبرير. إذ ليس بغائب عن ذهن أحد أن طول معاناة الفئات الشعبية، خاصة في المناطق المحرومة، لا بد أن يؤدي إلى مظاهر وتعبيرات راديكالية، بل وفوضوية. ولكن الخطير أن مشكلة انتهاك أصول اللياقة لا تقتصر على الاحتجاج السياسي بل إنها تشمل الخطاب العمومي بإطلاق. وهذا اختلال في القيم ليس أدل منه على أن التربية المدنية الحق هي التي تقرن بين إشاعة ثقافة حقوق الإنسان وإشاعة ثقافة واجبات المواطن. أي أننا في أمس الحاجة إلى تطوير ثقافة سياسية تنبني على وضوح مقاصد العقد الاجتماعي بين المواطنين أولا وبينهم وبين الدولة ومؤسساتها ثانيا. لأن من المفيد التذكر أن الديمقراطية والتنمية مشروطتان بالدولة، وليس العكس. فلا كرامة (اقتصادية) إلا بالدولة. ولا حرية (سياسية) إلا بالدولة.