محمد مشموشي *

ليست مصادفة، ولا يمكن أن تكون، أن laquo;يفرجraquo; النظام السوري عن نائب رئيسه فاروق الشرع ليعرض ما يصح وصفه بـ laquo;تسويةraquo; للوضع القائم في سورية منذ أكثر من 21 شهراً، وأن تتقدم كل من تركيا (بتشجيع من روسيا) وإيران بخطة خاصة بهما في الآن ذاته وتحت العنوان ذاته. بدء انهيار النظام، الذي لا ينكره الشرع من ناحية، والتقدم الكبير الذي تحرزه الثورة على الأرض وفي دمشق بالذات من ناحية ثانية، هما الدافع لهذا التحرك، الذي لا هدف له في النهاية الا توفيرraquo;خشبة خلاصraquo; ما لرئيس هذا النظام، بعد أن بلغت الأمور في سورية ما بلغته على كل المستويات المحلية: سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وهجرة شعبية، والاقليمية والدولية: حيث يعيش بشار الأسد ونظامه عزلة غير مسبوقة بالنسبة لأي نظام حكم في العالم.
هي محاولة اللحظة الأخيرة، كما يقال في مثل هذه الحال، ودافعها إدراك النظام أنه لم يعد أمامه إلا خيار من اثنين: الاستسلام والخروج، أو الإمعان في الانتحار عبر ارتكاب المزيد من المجازر، التي لم تنتج إلا ما أنتجته حتى الآن. أما مصير هذه المبادرة، فلن يكون مختلفاً في شيء عن مصير أخواتها من مبادرات سابقة، والسبب واحد، هو أنها على عادة نظام الأسد منذ بدء الثورة ضده، جاءت متأخرة بل متأخرة جداً، ذلك أنه ليس مألوفا من النظام السوري، وهو المعروف بشموليته وفردية حاكمه منذ أربعين عاماً، وبغض النظر عما إذا كان الشرع قد انشق عنه سابقاً أو مُنع من ذلك، وعما إذا كان قيد الإقامة الإجبارية مذ ذاك أو لا، أن يخرج نائب رئيسه على الملأ، وعبر صحيفة لبنانية يحسبها البعض على النظام وحليفه الإيراني، بكلام أقل ما يقال فيه إنه يعرّي النظام كله، أقله في ما درج على ترديده منذ آذار (مارس) 2011.
فليس من دون دلالة، ولو أنه جاء في سياق الكلام على laquo;تسويةraquo; سياسية، أن يقول الشرع الآن ما لم يقله سوى أطراف المعارضة للنظام، بمن فيها laquo;المعارضة الداخليةraquo;، التي توصف بأنها صناعة النظام ذاته، مثل قوله: laquo;في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح إحدى البنايات، الآن السلطة وبكل أذرعتها تشكو ndash;حتى إلى مجلس الأمن الدوليndash; كثرة المجموعات المسلحة التي يصعب إحصاؤها ورصد انتشارها... وإن تراجع أعداد المتظاهرين السلميين أدى بشكل أو آخر إلى ارتفاع أعداد المسلحين... وإن توفير الأمن للمواطنين واجب على الدولة، لكنه يختلف عن انتهاج الحل الأمني للأزمة، ولا يجوز الخلط بين الأمرينraquo;.
هل هو اعتراف بالخطأ، وإن متأخراً، على الطريق إلى اقتراح laquo;تسويةraquo; تنقذ ما يمكن إنقاذه؟
واقع الحال، أن الشرع يعترف بالمزيد من الأخطاء، عبر قوله إنه لم تشكَّل لجنة تحقيق ذات صدقية منذ بداية الأحداث laquo;وإذا شكل بعض منها، فإن نتائج التحقيق لم تنشر في وسائل الإعلام، الأمر الذي مهّد لنشر شائعات أفقدت النظام مصداقيته وهيبته أمام المتضررين في الداخل والمراقبين في الخارجraquo;.
ولكي يبرر موقفه، وربما اقتراحه laquo;التسويةraquo; التي يريدها، أوالتي يريدها النظام في الحقيقة، يضيف: laquo;كل يوم يمر يبتعد الحل عسكرياً وسياسياً على السواء. أما نحن، فيجب أن نكون في موقع الدفاع عن وجود سورية، ولسنا في معركة وجود فرد أو نظام... وقد تستغرب إذا قلت لك إن رئيس الجمهورية شخصياً قد لا يعطيك الجواب الشافي مع أنه يملك في يديه كل مقاليد الأمور في البلد... وهو لا يخفي رغبته في حسم الأمور عسكرياً حتى تحقيق النصر النهائيraquo;.
بل أكثر، فهو يعلن بجلاء: laquo;الحل لا يكون واقعياً إلا إذا بدأ من أعلى المستويات، فرئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي يعيّن رئيس مجلس الوزراء، ويقود الحزب الحاكم، ويختار رئيس مجلس الشعب. ولكن هناك في الوقت ذاته مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية مسؤولة مباشرة عن إدارة شؤون الدولة، ولدى هذه المؤسسات رؤساء ومديرون يعملون، أو يزعم بعضهم أنه يعمل، وفق التوجيه، وأحياناً يحسمون قرارهم عندما يشيرون بأصابعهم إلى الصورة المعلقة فوق مكاتبهم، ما يعني أن التوجيه لا نقاش فيهraquo;.
ولنبدأ من الأول: فلا يمكن أن يقول الشرع ما قاله (فضلاً عن أن تنشره جريدة laquo;الأخبارraquo;) من دون علم، أو ربما توجيه من رئيسه، لا فرق في ذلك ما اذا كانت الغاية طرح تسوية مع رئيس النظام بوجوده، أو تلميع اسم نائب الرئيس لاقتراحه قائداً للحوار المنتظر مع المعارضة أو رئيساً للمرحلة الانتقالية. كما لا يمكن تصور أن يبقى الشرع يحمل لقب نائب الرئيس، على تفاهة اللقب والمنصب في حد ذاته في نظام مثل نظام الأسد، اذا كان كلامه هذا مجرد تعبير عن موقف شخصي كما حاول أن يلمح.
إذاً، فلا يحتاج المرء الى البحث عن دليل لتأكيد أن ما ورد على لسان الشرع ليس سوى مسعى laquo;اللحظة الأخيرةraquo; من قبل الأسد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظامه من جهة أولى، وأن كلامه على laquo;التسوية السياسيةraquo; ليس بدوره سوى إعلان صريح بأن laquo;الحل الأمنيraquo; الذي اعتمده ضد ما كان يسميه laquo;عصابات مسلحةraquo; قد وصل إلى نهايته بعد أن بدأت الثورة تدق أبواب العاصمة دمشق وقصر الرئاسة من جهة ثانية.
أكثر من ذلك، فأن تتحدث الخطة التركية المؤيدة رسمياً من روسيا، عن بقاء الأسد في منصبه ثلاثة شهور أخرى، أي عملياً إلى ذكرى مرور ثلاثة أعوام على انطلاق الثورة السورية، إنما يشير بدوره إلى إعلان آخر من موسكو بأن اللعبة قد وصلت إلى نهايتها، والى أن المبادرات الثلاث على لسان الشرع ومن قبل كل من تركيا وإيران هي شيء واحد وإن تعددت لغاتها وخرائط الطرق التي تتصورها لإخراج الأسد من المأزق.
وليس من المبالغة في شيء اعتبار أن نجاحات الثوار على الأرض هي الدافع الأول للمبادرات هذه كلها، وأن الثوار أنفسهم هم من يقرر مصيرها في نهاية المطاف.

* كاتب وصحافي لبناني