من الديمقراطية الموجهة إلي رعاية طبقة رأسماليين تحت الطلب
عرض وتقديمrlm;:rlm; عزت إبراهيم
روجر أوين يحلل جذور الاستبداد في الأعوام الخمسين الأخيرة (1)
في الحلقة الأولي تناول المؤرخ روجر أوين الأنظمة والجمهوريات الرئاسية بعد حصول الدول العربية علي الإستقلال قبل ستة عقود وسعيها لبناء دولة حديثة إلا أن الضغوط والإخفاقات في إدارة عملية التحول أوصدت الباب أمام تحقيق الديمقراطية فيما غابت التنمية الإقتصادية وتعمقت الدولة البوليسية لخدمة بقاء الحكام في كراسيهم إلي الأبد... فإلي الحلقة الثانية:
يقول روجر أوين إن الدولة الأمنية أو البوليسية العربية تضرب بجذورها في الأنظمة الرئاسية السلطوية التي تأسست بعد الإستقلال, فقد مرت تلك الأنظمة بملمح عملية بناء دولة حقيقية قبل أن تجري عملية هيكلة من أجل أن تصبح متكيفة مع ظهور مصالح إقتصادية خاصة ومنتقاة بعناية في ظل ديمقراطية موجهة فيما تركزت المسئولية الرئيسية الخاصة بتحصيل موارد الدولة محصورة في الحفاظ علي الرئيس في السلطة مدي الحياة. ويشير المؤرخ الكبير إلي مسألة مهمة تنطبق علي التعامل الراهن مع الأجهزة الأمنية في مصر فيقول إن العقود الطويلة التي أدت إلي تمكين وتشعب المسئولين الأمنيين ترجح أن تبقي تلك الهياكل السلطوية في مواقعها لفترة من الوقت أبعد من مجرد النجاح في الإطاحة بالرؤساء الذين قاموا برعاية تلك الأجهزة. ويقول إن الدولة الأمنية تسيطر عليها, علي نحو كبير, الفردية والشخصنة وتزداد قوتها بمرور الوقت بدعم من الحكام- وهم أنفسهم الرؤساء الذين قدموا تنازلات لشعوبهم في بدايات حكمهم إلا أن سيطرتهم وتمكينهم للأجهزة الأمنية أدي إلي تنامي قوية وقسوة تلك الأجهزة بمرور الوقت. وتزامن مع ما سبق, أن الحريات العامة ومستوي الرفاهية الإجتماعية لعموم الناس قد تأثر بتغول السلطة الأمنية ولم يعد هناك ميزانا واحدا من حيث منح حرية أكبر لعدد قليل من المحاسيب وقيودا وتراجع في فرص الحياة الأفضل وتوقعات عموم المواطنين.
وقد قامت ملكيات عربية بتأسيس هياكل للدولة تقوم علي تعزيز قوة الأجهزة الأمنية بالطريقة نفسها. كما أن الدولة الأمنية ـ البوليسية هي دولة عنيفة بطبعها وتملك أدوات للقمع مثلما وصفها الباحث المصري نزيه الأيوبي ـ رحل في سن مبكرة وكان أستاذا في جامعة أكسفورد حتي التسعينيات ـ بأنها تفرض العنف عندما تفقد القدرة علي التماسك أو تقديم خدمات عامة للمواطنين علي نحو مقبول. وفي ظل المركزية الشديدة وتركيز السلطة لا يملك الوزراء المدنيين أية قدرة علي القيام بمبادرات شخصية, وفي ظل غياب الموارد وضعف بنية الدولة أصبح البديل هو بناء ولاءات شخصية داخل تلك الأنظمة الرئاسية سواء من جانب الأتباع المحاسيب أو من خلال مؤسسات داعمة تملك مصالح مع النظام الحاكم مثل المؤسسة العسكرية في بعض الدول دون إعتبار كبير لمصالح المواطنين العاديين. وفي المقابل, تزداد مؤسسات مهمة في الدولة ضعفا مثل الجهاز الإداري أو التنظيمي وتفقد الرقابة القضائية معناها.
في قمة النظام, يطل المكتب الرئاسي وأسرة الرئيس ومجموعة صغيرة من المستشارين القادمين من خلفيات عسكرية وأمنية وطبقة من رجال الأعمال ويليهم في الأهمية المسئولون البارزون في المؤسسة العسكرية وأجهزة الإستخبارات والشرطة فضلا عن حفنة أخري من الرأسماليين المقربين ممن يحصلون علي مكاسب واسعة نظير قيامهم بتدبير موارد إضافية للنظام سواء من حيث المال أو مهارات تنظيمية. وفي المدار الثالث, تأتي هيئات الإدارة المدنية والوزارات والمحافظين والمؤسسات التعليمية والأخيرة هي التي تكسب النظام شرعية أيديولوجية وقدرا كبيرا من السيطرة ثم يأتي الإعلام الرسمي والقضاء المقيد والمؤسسة الدينية المقيدة أيضا. كما يمكن إضافة حزب السلطة الحاكم والمنظم بشدة عبر عضويات بالملايين ومن عينته الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقا في مصر ـ وكان يضم نحو3 ملايين عضو ولو صوريا ـ والحزب الحاكم سابقا في تونس حيث يعتمد علي ماكينة دعاية كبيرة وقوات شرطة تابعة تقوم بخدمات المراقبة وجمع المعلومات.
ويعطي أوين ملمحا عن مسيرة الأنظمة العربية حيث يقول إنهم قد إستفادوا من أيديولوجية الإشتراكية العربية بطرق متنوعة سواء في مصر أو سوريا أو العراق وبمرور الوقت أدخلت الأنظمة الرئاسية تعديلات بحيث يسمح بقدر من الحرية الإقتصادية مع لمحة بسيطة للإنفتاح السياسي ثم في مرحلة تالية تخلصوا من كل قيود تعوق سيطرتهم المطلقة وحريتهم في الحركة دون تحفظات ومن أهم من قدم نفسه بالصيغة السابقة هو صدام حسين في بيانه الشهير في نهاية الثمانينات عندما قال القانون هو أي شئ أخطه بيدي علي ورقة! وفي إشارة أخري علي تنامي الدولة البوليسية, تفوقت ميزانية وزارة الداخلية علي الموازنة السنوية للرعاية الصحية في السنوات الأخيرة. وفي تونس, تقدر الدراسات عدد قوات الشرطة بنحو01% من تعداد سكان البلاد البالغ01 ملايين شخص وهو ما يعادل أضعاف تعداد قوات الأمن في فرنسا ـ دولة الإحتلال السابقة. ويقول أوين إن المتوافر من معلومات من داخل القصور الرئاسية العربية شحيح للغاية عن قصد لعدم إطلاع الراي العام علي تفاصيل كيفية إحكام السيطرة علي مقاليد السلطة وإستخدام الأساليب القمعية ضد المعارضين وبالتالي انحسرت المعلومات والقرارات في المقربين من السلطة من رجال الرئيس أو الأسرة الحاكمة وهو أمر تساوي فيه الجميع سواء حسني مبارك أو بن علي في تونس أو بشار الأسد في سوريا أو معمر القذافي في ليبيا.
كما يشير الكاتب إلي تشييد الرؤساء العرب في العقود الأخيرة ـ فيما عدا القذافي ـ لقصور رئاسية فخمة كانت تتناسب مع طموحات التوريث في عدد من الدول العربية, فيما لجأ أحدهم وهو زين العابدين بن علي إلي إنشاء مجمع وزاري مصغر في مجمعه الرئاسي من أجل إحكام السرية علي الحكم, ويقول إن الرؤساء السابقين مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات لم يميلا إلي الفخامة المبالغ فيها. في تلك الأجواء, يبرز دور المحاسيب من رجال الأعمال ممن يعتمد عليهم نظام الحكم ـ خاصة في الدول العربية غير المنتجة للبترول ـ في تمويل قبضته الحديدية, وفي دول بترولية مثل ليبيا والجزائر توجد مجموعة من رجال الأعمال يستفيدون من الفوائض إلي جانب الدائرة الضيقة للسلطة حتي لا يتألب الرأي العام ضد الحكومة. كما أن الطبقة الجديدة المقربة من الرئيس والأبناء جاءت ـ في الغالب ـ من جميع أطياف المجتمع, ولم تكن محصورة في طبقة معينة مثلما كان الوضع في مصر قبل ثورة يوليو2591, حيث تعتمد تلك الطبقة علي الدولة في الحصول علي إمتيازات مثل مقاولات بناء الطرق والأراضي الجديدة والمشروعات التي تتمتع بإستثناءات خاصة. وزادت العلاقة تشابكا بعد سياسات التحرير الإقتصادي والدخول في مشروعات مشتركة مع شركاء أجانب وخلقت تلك الأوضاع ما يمكن تسميته بــ رأسماليون تحت الطلب لخدمة النظام الحاكم وتوفير السيولة اللأزمة عند الضرورة.
ويقول أوين إن تلك الظاهرة بدأت فعليا في مصر في مطلع السبعينيات ثم تبعتها سوريا وتونس وليبيا في الثمانينات. وفي ظل النقاشات التي كانت دائرة سمح الحكم للمقربين بالإستثمار في قطاعات مثل السياحة وقطاعات إنتاجية في الزراعة حتي حدثت قفزة وتغيرات في الإقتصاد العالمي إجمالا وظهور ما يعرف اليوم بـ إجماع واشنطن لإقراض الدول المدينة مقابل تقليص حجم القطاع العام. في تلك الأجواء, ظهرت الصفقات السرية التي سمحت لمجموعة محدودة بالسيطرة علي مشروعات الدولة بالشراء وإقامة جمعيات رجال الأعمال وغرف تجارية وتشجيع الإستثمار الأجنبي المباشر بما يحقق لتلك المجموعة أكبر مكاسب ممكنة. وكانت النتيجة تراكم الثروات لدي المحاسيب وعمولات ورشاوي بلا حساب للوسطاء ـ ومن بينهم أبناء الزعماء ـ مع تقديم البعض كبش فداء في حال وجود تسريبات صارخة عن تلك الممارسات وهم من سماهم المؤرخ القطط السمان الجديدة في مصر. كما ظهر القطط السمان علي يد أقارب علي عبد الله صالح في اليمن رامي مخلوف ابن عم بشار الأسد في سوريا( يسيطر علي06% من إقتصاد البلاد) وزوجة بن علي في تونس.
ويحلل أوين معضلة الشرعية التي يسعي الرؤساء في الجمهوريات العربية إلي تأكيدها فيقول إن الحكام المخلوعين كانوا يسعون إلي إبعاد العامة عن ممارسة العمل السياسي فيما يحاولون تشجيعهم علي التصويت في الإنتخابات والإستفتاءات بتوجيه مباشر منهم ويتركون مسئول النمو الإقتصاد وتحسين مستوي المعيشة للخبراء الإقتصاديين وفي حال حدوث إنتكاسة يدفع هؤلاء الثمن. وعادة, الدساتير هي وسيلة تأكيد السلطة المطلقة للرئيس خاصة في جمهوريات الدول العربية في الشرق الأوسط. وقد لعبت عوامل عديدة في مصر وتونس واليمن في صالح التعجيل بالإنتفاضات الشعبية ضد الحكام بعد سلسلة من التعديلات علي الدساتير المتسرعة وإجراء إستفتاءات لمنحها شرعية منقوصة ثم الوقوع في مأزق إدارة الإنتخابات البرلمانية في عامي5002 و0102 في مصر بما يضمن أغلبية مريحة للحزب الحاكم تضمن إنتخابات مريحة لمبارك أو نجله في حال إستقرار الرأي علي ترشحه. وفي الحالتين, عمد الحزب الحكام, مدعوما بالأجهزة الأمنية, علي إبعاد الشخصيات المعارضة بفرض شروط تعجيزية علي الترشيح للرئاسة وإنتقاء أحزاب المعارضة التي يمكن أن تنافس في الإنتخابات أو التزوير الواسع النطاق للإنتخابات البرلمانية. ويشير أوين إلي غرابة ما سعت إليه الأنظمة الحاكمة في إدارة إنتخابات مشكوك في شرعيتها وإستهلاك الوقت في إجراء إنتخابات موجهة علي غرار ما حدث في مصر وتونس في السنوات الأخيرة من أجل منح بلدهم شكلا ديمقراطيا تعدديا ديكوريا أمام العالم الخارجي يحسب لهم ولأبنائهم ـ بينما كانت ليبيا وسوريا أكثر وضوحا في عدم اللعب بورقة الإنتخابات المعدة نتيجتها سلفا من خلال سطوة الحزب الواحد في سوريا واللجان الشعبية منزوعة الصلاحية في ليبيا.
الجانب الأخر من الصورة في السنوات الأخيرة للأنظمة التي سقطت, وبعضها لم يسقط بعد, هو كيفية إدارة الإقتصاد في الجمهوريات الرئاسية, فالسائد في السنوات الأخيرة هو الصراع ما بين تيارين حيث يقوم دعاة بقاء سيطرة الدولة وإحتكارها للأنشطة الإقتصادية والخدمية الرئيسية بتأليب النظام ضد دعاة المزيد من الإنفتاح علي الإقتصاد الدولي وهو الصراع القائم في الأنظمة العربية لفترة من الزمن وبدأت بشائره مع تراجع أسعار البترول في عقد الثمانينات. ويقول أوين إن الصراع قد تجلي عندما دخل الأبناء في لعبة السياسة وإنحازوا للفريق الثاني وهو ما خلق توترات سياسية في مصر وليبيا ـ بسبب سطوة سيف الإسلام القذافي ـ نتيجة شعور الحرس الإقتصادي القديم بالتهديد, حيث قاد جمال مبارك ـ في الحالة المصرية ـ عملية تخفيض التعريفات الجمركية وتبني إستراتيجية توجيه الإقتصاد تجاه التصدير. ويقول أوين إن القشة الأخيرة التي عجلت بالثورات هو فقدان تلك الأنظمة القدرة علي التعامل مع موجة إرتفاع الأسعار في الفترة التي سبقت الإنتفاضات حيث لعبت الإحتكارات التي تولي النظام رعايتها ـ خاصة في مصر ـ دورا في زيادة الغضب الشعبي حتي وصل إلي درجة الغليان.
أنهت ثورتا مصر وتونس أسطورة النظم الجمهورية الملكية التي ساد الاعتقاد أنها النمط الذي سيسيطر علي العالم العربي إلي أمد غير معلومrlm;.rlm; وللمرة الأولي في الدراسات الغربية الرصينةrlm;,rlm; يغوص المؤرخ البريطاني الشهير روجر أوين في أصول واليات نظم الحكم وشكل الحكومات التي سادت في الشرق الأوسط علي مدي القرن العشرين في كتاب جديد صعود وسقوط ظاهرة الرؤساء العرب مدي الحياة ويصدر في مايو المقبل عن دار نشر جامعة هارفارد الأمريكيةrlm;..
ويعرض الأهرام لأهم أفكار الكتاب قبل صدوره لاستخلاص أهم الدروس من الظاهرة السياسية التي أوصلت شعوب المنطقة إلي الثورة وإعادة رسم خريطة العالم العربي من جديد.
انتهي أوين من كتابه فعليا قبل أيام من بدء الثورة علي زين العابدين بن علي في تونس في ديسمبر عام0102 ثم وقع في حيرة من أمره هل يدفع مؤلفه إلي المطبعة أم ينتظر لرؤية تداعيات الإنتفاضات المتتالية التي بدأت بتونس ثم مصر وليبيا واليمن وأخيرا سوريا وما بينهما من إعلان الرئيس السوداني عمر البشير أنه لن يسع إلي فترة رئاسة جديدة بعد نهاية فترته عام5102 وهو ما كان يعني عمليا نهاية ظاهرة كان مقدرا ان تحكم الشرق الأوسط لعقود قادمة من توريث للحكم وقمع متواصل للحريات ثم واصل قراءة التطورات المثيرة ليقدم دراسة مهمة.
ويقول روجر أوين77 عاما أنه قد حضر صعود النظم الجمهورية القوية في العالم العربي بعد نهاية الحقبة الاستعمارية إستجابة لعملية إعادة البناء سعيا للإستقلال الكامل ومن ثم ظهرت برامج الإصلاح الزراعي والتصنيع والتعليم الحديث إلا أن سنوات السبعينيات جاءت بمظاهر الحكم الفردي الأكثر مركزية قبل أن تتحول إلي حكم سلطوي يتمسح في التعددية الحزبية والديمقراطية دون أن تمارسها الأنظمة العربية علي منوال بعض دول أمريكا اللاتينية أو جنوب آسيا أو أفريقيا جنوب الصحراء فيما يصفه المؤرخ الكبير بأنه قد تطور إلي عملية عناد وسير عكس الزمن وضد فلسفة النظام الجمهوري في العالم الحديث. ويقول أوين أن الحاكم العربي الوحيد الدي ترك السلطة طوعا- في مرحلة ما بعد وصول العسكريين للسلطة في غالبية الجمهوريات العربية في النصف الثاني من الستينيات- هو الرئيس اليمني الشمالي عبد الرحمن الإرياني عام4791. وبحلول نهاية ديسمبر0102, كان المشهد العربي يعج بالمعمرين في السلطة من حسني مبارك إلي علي عبد الله صالح في اليمن وزين العابدين في تونس والقدافي في ليبيا وعمر البشير في السودان, بينما كان نجاح نقل السلطة في سوريا إلي بشار الأسد هو الإغراء الأول للحكام الأخرين أن يقتفوا أثره في التوريث, بينما كانت الملكيتان في المغرب والاردن تخطوان نحو ممارسات أقرب للنظم الجمهورية من حيث الانفتاح علي التعددية الحزبية. ويقول الكاتب أن إغراء التحول من جمهوريات إلي ملكيات أمر يضرب بجذوره في التاريخ القديم والمعاصر, فالرئيس الأمريكي جورج واشنطن قاوم بشدة مطالب تنصيبه ملكا علي الولايات المتحدة بعد حرب الاستقلال ونابليون بونابرت قبل أن يصبح إمبراطورا تلبية لدعوات الحفاظ علي مكتسبات الثورة الفرنسية.
في الفصل الأول تحت عنوان البحث عن الشرعية في عالم غير آمن يرصد أوين مسيرة النظام الرئاسي في الدولة العربية الحديثة ويقول أن ما وصلنا إليه اليوم هو نتاج خليط من ميراث الحقبة الاستعمارية والعروبة والنظام الدولي للدول صاحبة السيادة تحت رعاية الأمم المتحدة بعد عام5491 حيث شملت بريطانيا وفرنسا الدول الحديثة التي ظهرت من توازنات وخطط الحرب العالمية الأولي والثانية وهو ما ترك أثرا بالغا في استمرار وجود مناطق نفوذ لتلك الدول في الشرق الأوسط فيما بعد, سواء في الهلال الخصيب أو شبه الجزيرة العربية أو شمال إفريقيا. وشهد بناء الدولة القومية تحديات هائلة نتيجة قيام الدول الاستعمارية بوضع حدود واقامة سلطة مركزية ونظام قانوني فيما أبقت علي الشركات التي استغلت ثروات تلك الدول وتركت وراءها ميراثا أخر من التقسيم الطائفي والعرقي تحصد ثماره الثورات العربية اليوم. كما ورث العالم العربي ـ بعد سيطرة التيار المعادي للاستعمار ـ أسوأ ملامح السياسات الاستعمارية وهي إهمال التعليم والصناعة المحلية, في حين خلف تيار العروبة في المناطق الواقعة شرق قناة السويس مشكلة التنازع مع الدولة الوطنية. وبعد حصول الدول العربية علي استقلالها عقب الحرب العالمية الثانية, لعب التهديد الخارجي من عودة المستعمرين من جديد دورا في إحكام الأنظمة الحاكمة قبضتها علي السلطة والبرهنة أمام شعوبهم علي أنهم قادرون علي الحكم والابتعاد عن مطامع المحتلين السابقين, فيما سعت الدول الإستعمارية إلي مواصلة الضغط السياسي والاقتصادي والعسكري علي تلك الأنظمة. وقد ولدت الضغوط السابقة, سياسات جديدة للأنظمة الحاكمة تعمل علي فرض السطوة علي المواطنين من خلال المؤسسات والاساليب المتنوعة ومنها إستخدام قوة جهاز الشرطة والأمن وإدارة الإنتخابات وهي أساليب مستعارة من الحكم الاستعماري السابق. كما لعبت هزيمة عام8491 دورا في رفع قدرات الجيوش العربية لمواجهة تهديد إسرائيل وهو ما نتج عنه زيادة في تعداد الضباط في الطبقتين الوسطي ودون الوسطي في مجتمعات, منها المجتمع المصري بالقطع, والطبقة الجديدة المتخرجة من الأكاديميات العسكرية كانت مفعمة بالوطنية وهو ما ترك تبعات في المواجهات بين العسكريين والقوي المدنية في مراحل لاحقة. وفي مواجهة الضغوط الخارجية, تحركت مصر لمواجهة الاستعمار القديم بأفكار الوحدة العربية والتعاون الأفريقي-الأسيوي فيما بقي حال الأوضاع الداخلية للنظام السياسي العربي في مأزق كبير خاصة بعد الانقلابات المتتالية في سوريا وهزيمة7691.
الجيل الثاني من الأنظمة العربية الحاكمة
في غالبية العالم العربي, شهدت حكومات ما بعد الاستقلال عملية إحلال جديدة بظهور أنظمة أكثر راديكالية سعت باسم الثورة علي إزالة كل أثار الحقبة الإستعمارية مثل تفكيك القواعد العسكرية الأجنبية المتبقية وتأميم معظم القطاع الخاص المرتبط بالعالم الخارجي لمصلحة سياسات إقتصادية تسيطر عليها الدولة وسياسات اجتماعية أيضا, فيما باتت الديمقراطية والتعددية أمورا مكروهة بعد أن أشاعت النخبة أن الممارسات الديمقراطية وراء الإنشقاق وبعثرة الوحدة الداخلية وبالمثل صارت القومية العلمانية هي الأيديولوجية السائدة علي حساب أي بديل أخر, ومنها ما يستند إلي المبادئ الإسلامية. ويقول أوين أن محاكمات ما بعد حركة الجيش في مصر عام2591 إستهدفت منح شرعية للضباط الأحرار وليس فقط معاقبة النظام الملكي السابق, بهدف محدد وهو تعميق الحكم السلطوي والصوت الواحد في ظل الصراع من أجل الإستقلال الكامل. وفي أعقاب مصر, توالت انقلابات مماثلة في العراق والسودان والجزائر وسوريا وليبيا في الفترة ما بين8591 و9691. كما أدت محاولة الإنقلاب المتتالية في الأردن والسعودية والمغرب إلي إرتداء الحكام ثوب المحدثين القابضين علي السلطة المركزية علي نمط الحكومات الجمهورية المجاورة. والنمط الأكثر تفضيلا للنظام السياسي في الجمهوريات الجديدة هو الحزب الواحد في ظل هيمنة تامة علي برامج وخطط التنمية والرفاهية الإجتماعية من خلال محاولة إعادة توزيع الثروة.. من وجهة نظر روجر أوين أن تلك البنية الجديدة كانت وسيلة أو محاولة لبناء الدولة فيما كان واقع الحال هو منح شرعية أكبر للحكام الوطنيين من خلال استخدام مصطلح الاشتراكية العربية بصورة غامضة سهلت عملية احكام السيطرة علي المواطنين والحدود الجغرافية واحتكار الصورة الرسمية للإسلام. عقب هزيمة7691, قامت إنقلابات عسكرية جديدة بفعل الروح المعنوية المتدنية خاصة في العراق وسوريا ثم ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية وخرجت إلي النور التيارات الإسلامية في حقبة السبعينيات, وبزغت أنماط جديدة من التفكير السياسي ومنها ما فعله الرئيس الراحل أنور السادات من قبول تسوية سلمية مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر وإعادة التفكير من جديد في جدوي النسخ المتشددة من القومية العربية. ويقول أوين أن هناك اربعة عوامل ظهرت في الفترة من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات تركت أثرها في الحوادث السياسية التالية في العالم العربي وهي:
الأمر الأول: إعادة تأهيل الجيوش العربية علي نحو محترف بعد الهزيمة سواء في مصر أو سوريا أو العراق فيما أحكم الرئيس الجديد أنور السادات سيطرته علي المؤسسة العسكرية وهو النمط الدي انتقل إلي سوريا والعراق اللتين شهدتا في الماضي عدم قدرة الرؤساء أصحاب الخلفيات العسكرية علي السيطرة التامة علي مقاليد السلطة واستمالة الضباط المسيسين ممن دأبوا علي إستخدام الجيش في الصراعات السياسية.
الأمر الثاني: هو أن هزيمة يونيو أدت إلي ندرة في العوائد المالية والموارد اللأزمة للوفاء ببرامج الرفاهية الاجتماعية مما أدي إلي التفكير في سياسات الإنفتاح الاقتصادي ـ من أجل تقديم حافز للإستثمار الأجنبي ـ وموجة هجرة العمالة المصرية للعمل في دول الخليج العربي ثم توالت الآثار في صورة إنفتاح سياسي وتعددية مقننة في ظل معارضة تحت السيطرة وتطور الأمر إلي سياسة الخصخصة في التسعينيات من القرن العشرين والتي عنيت ببيع مشروعات مملوكة للدولة لأصحاب رؤوس أموال وشركات مقربة من النظام في الغالب. كما قامت أنظمة جمهورية أخري في العالم العربي بعمليات خصخصة مماثلة بعد تراجع أسعار البترول إعتبارا من منتصف الثمانينات فضلا عن وجود ضغوط من القوي الغربية الكبري والمؤسسات المالية الدولية من أجل مزيد من إنفتاح السوق الداخلي بعد سقوط المعسكر السوفيتي في عام9891.
الأمر الثالث: هو تراجع معدلات الانقلابات في العالم العربي ـ اعتبارا من أواخر الستينيات ـ نتيجة ما سبق الإشارة إليه من رفع مستوي احتراف كثير من الجيوش العربية وزيادة قدرة السلطة السياسية علي السيطرة علي المؤسسة العسكرية بعد حرب7691. ويقول أوين أن زيادة تعداد الجيوش العربية ورفع كفاءتها قد ساهم في تقليص معدل الإنقلابات نتيجة عدم قدرة فصيل واحد علي حشد الأخرين حول رغباته فضلا عن إنشاء وحدات الحرس الجمهوري وتوزيع مهام المراقبة علي المخابرات الوطنية ووحدات في الأحزاب السلطوية الحاكمة مثلما حدث في حالة حزب البعث في العراق وسوريا.
الأمر الرابع: هو البحث عن شرعيات جديدة بعد تأكل شرعية الجيل الأول لمرحلة ما بعد الإستقلال وكانت وسيلة الشرعية الجديدة هي سياسة التحرير الاقتصادي المدعومة بـعملية انتخابية تجري تحت السيطرة وفي وجود معارضة مستأنسة.
وقد خلقت تلك الخطوة عددا من المشكلات الجديدة أدت إلي استناد الرؤساء العرب علي مزيد من قوة المؤسسة الأمنية الداعمة لهم والتي إستهدفت بقائهم في السلطة دون تهديد فعلي.
(2) جذور الاستبداد ..
التعليقات