فيصل جلول

لم يكن فرنسوا هولاند الرئيس الفرنسي الجديد نكرة بين قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي الكبار، فقد عمل أميناً عاماً للحزب خلال 11 عاماً وهو رقم قياسي في بلد تشتد فيه المنافسة على منصب يأمل الساسة توليه كمحطة إجبارية على طريق رئاسة الجمهورية أو الحكومة أو البرلمان . وإذا ما نظرنا إلى سيرة الرؤساء الفرنسيين السابقين ومنافسيهم نرى أنهم كانوا زعماء لأحزابهم كما هي حال الجنرال ديغول ملهم التيار الديغولي، أو فرنسوا ميتران الأمين العام للحزب الاشتراكي، أو جاك شيراك وريث الجنرال الراحل في تياره، أو ليونيل جوسبان وميشال روكار زعيما الحزب الاشتراكي نفسه . . إلخ .

بيد أن هولاند لم يرشح نفسه للجمهورية مستفيداً من منصبه أميناً عاماً للحزب كما فعل هؤلاء، بل تزامنت سنته الأخيرة في الأمانة العامة مع ترشيح زوجته السابقة سيغولين رويال لهذا المنصب، الأمر الذي بدا في حينه وكأنه حالة خاصة لا مثيل لهل من قبل . بعبارة أخرى لم يسبق لأي سياسي أن غادر منصبه في الأمانة العامة لحزبه من دون أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية أو الحكومة من خلال هذا المنصب، فهل كان هولاند زاهداً أو يائساً أو أنه مناور رفيع المستوى يعرف من أين وكيف تؤكل الكتف؟ الجواب يستدعي الرجوع قليلاً إلى الوراء، فقد شاءت المصادفات أن يتولى هذا المنصب، ذلك أن ليونيل جوسبان الأمين العام السابق ترشح (1995) لرئاسة الجمهورية وكان يحتاج إلى من يخلفه في منصبه على أن يكون قادراً على الحفاظ على وحدة الحزب المهددة في حينه بالتيارات المتباغضة والتنافس بين الزعامات والمستوزرين والمسترئسين، فوقع اختياره على هولاند الذي ما عرف عنه طموح رئاسي أو وزاري، ولم يتميز بنزاعاته الحادة مع قادة الحزب الآخرين بل بميله نحو المساومة والتوفيق . ولعل مهارته في المساومة هي التي جعلته يستقر على رأس الحزب لمدة 11 عاماً . والواضح أن قدراته التوفيقية هي التي حملته إلى تمهيديات الحزب الاشتراكي العام الماضي لاختيار مرشح الحزب للرئاسيات، وكان واحداً من ستة مرشحين عرف كيف يستفيد من تشتت مؤيديهم من جهة، وأن يستفيد من جهة أخرى من التحاق المشتتين به من دون حقد دفين أو رغبة في الانتقام والثأر السياسي وهو ما وقع بالفعل، حيث لم تسجل في الحملة الانتخابية ldquo;نوتةrdquo; مخالفة من حزبه ضده، ولاسيما بعد أن عين منافسيه في التمهيديات الحزبية في مناصب رفيعة في حملته الانتخابية وهذه المناصب غالباً ما تكون من بعد مناصب حكومية أو إدارية مهمة في الدولة ورئاسة الجمهورية .

والراجح أن مظهر هولاند الخارجي يعينه على التقدم وسط الفيلة والديناصورات من دون إثارة الخوف أو العداء أو الحسد، فقد شبه البعض حركته بحركة السلحفاة البطيئة التي لا يحسب أحد حساباً لها في سباق المسافات، وهو يبدو عندما يبتسم كأنه أقرب إلى ldquo;بابا نويلrdquo; الذي يوزع حلوى وهدايا على الأطفال في عيد الميلاد، أما صوته في خطبه وفي أحاديثه فهو أقرب إلى صوت ممثل عن الطلبة يخاطب زملاءه بما يودون سماعه من دون أن يثير حفظيتهم أو يلهب حماستهم . تبقى الإشارة إلى أنه يبعث الاطمئنان لدى كبار السن والمتقاعدين عندما يتحدث بصوت نصف مبحوح أو عندما يروي نكاتٍ ذكية أو يسأل ناخبيه المتقاعدين عن أبنائهم وأحفادهم وأقاربهم .

يفصح ما سبق عن شخصية فريدة بين رؤساء الجمهورية في فرنسا توصف بأنها عادية وبالتالي ليس استثنائياً ومقاتلاً كما هي حال الجنرال ديغول، أو تاريخياً نقل اليسار إلى السلطة للمرة الأولى في عهد الجمهورية الخامسة كما هي حال فرنسوا ميتران، أو لامعاً في ليبراليته وكفاءته كما هي حال فاليري جيسكار ديستان، أو مشاكساً على الصعيد الدولي، كما هي حال جاك شيراك، أو مغامراً ومتغطرساً وبراغماتياً بلا ضفاف أو حدود، كما هي حال نيكولا ساركوزي . وقد لفتني تشبيه عارض له مع آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر، ولعل الشبه بين الطرفين لا يتعدى المظهر الخارجي والسمنة المتوسطة فالرئيس الفرنسي الجديد علماني وجمهوري حتى العظم .

خلاصة القول إن فرنسا ستعيش لنصف عقد مع رئيس يوصف بالعادي في ظروف غير عادية بل استثنائية، حيث أزمة الأسواق لم تتم فصولاً بعد والتنافس الألماني الفرنسي على أشده في أوروبا، والاضطرابات تحيط بالقوات الفرنسية في معظم مراكز وجودها في العالم، وافتراق الفرنسيين الاجتماعي ما كان يوماً بهذا القدر من الاتساع . فهل تحتاج فرنسا فعلاً في مثل هذه الظروف إلى رئيس عادي كما يصفه الجميع ويصر بنفسه على هذا الوصف؟ ألم يخطئ الفرنسيون في اختيارهم رئيساً عادياً لولاية غير عادية؟ الجواب يمكن العثور عليه في تاريخ هولاند العائلي، فقد نشأ بصورة عادية في أسرة ينتمي الوالد فيها إلى اليمين الفرنسي المتطرف، وكان أحد مرشحيه البارزين في الانتخابات البلدية في الستينات وأم مسيحية يسارية على النقيض من الأب . هنا نشأ هولاند بطريقة عادية في منزل غير عادي ووصل إلى قصر الإليزيه، ما يعني أن العادي في سيرته هو الوجه الآخر للاستثنائي والباقي تفاصيل لا تستحق الذكر .