القاهرة - أحمد أبو المعاطي
يعيد الحادث الإرهابي الخطير الذي تعرضت له منطقة رفح المصرية قبل أيام، وأسفر عن استشهاد 17 ضابطاً وجندياً مصرياً، وإصابة سبعة آخرين، فتح واحد من أهم وأخطر الملفات السياسية في مصر والمنطقة العربية بشكل عام، وهو ملف اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع دولة الكيان الصهيوني في 17 سبتمبر من العام ،1978 وهي الاتفاقية التي لعبت دوراً كبيراً ليس فحسب في شق الصف العربي على مدار عقود من الزمان، وإنما كان لها أثر مباشر، حسبما يرى كثير من الخبراء، وحسبما توضح العديد من بنودها، في غل يد مصر عن السيطرة الكاملة على مساحة كبيرة من سيناء، بما تتضمنه هذه النصوص من حظر تواجد أي قوات عسكرية بالكثافة المطلوبة في مناطق الحدود، وتحويل هذا التواجد الأمني إلى مجرد ldquo;وجود رمزيrdquo;، لا يكفي بطبيعة الأحوال لمواجهة ما تتعرض له المنطقة الحدودية من خروقات .
في نظر كثير من الخبراء والمحللين السياسيين فإن ما شهدته منطقة رفح الحدودية قبل أيام، لم يكن سوى واحد من تجليات كوارث اتفاقية كامب ديفيد، بما تتضمنه من نصوص تقيد قدرات مصر على نشر قواتها، وإحكام سيطرتها العسكرية كاملة على جزء مهم جداً من أراضيها، وهي نفس النصوص التي وقفت على مدار عقود من الزمان حائلاً دون تعمير سيناء بالكثافة السكانية والأمنية اللازمة، ما حول أجزاء كبيرة منها إلى مجرد مساحات فارغة أمنياً واقتصادياً، الأمر الذي مهد لاستباحة أراضيها وفتح أبوابها على مصاريعها أمام العديد من المؤامرات الصهيونية التي تستهدف بالأساس تعويق أي محاولات للتنمية على أرض البوابة الشرقية للبلاد .
بدا الأمر مساء الأحد الماضي أشبه بالكابوس، عندما فوجئ ملايين المصريين، الذين كانوا قد فرغوا لتوهم من تناول طعام الإفطار، بنبأ الهجوم الغادر الذي تعرض له جنود تابعون لقوات حرس الحدود في إحدى النقاط الأمنية التابعة لمدينة رفح الحدودية، ومع مرور الدقائق بدأت الحقائق تتضح شيئاً فشيئاً، ليتأكد نبأ استشهاد سبعة عشر منهم وإصابة سبعة آخرين .
تسابق مع الزمن
في مستشفى العريش القريب كانت سيارات الإسعاف تسابق الزمن لإنقاذ الجنود، الذين سقطوا برصاصات الغدر، بينما كانوا يتناولون طعام الإفطار، في الوقت الذي هرع فيه المئات من أهالي العريش للتبرع بالدماء، في ملحمة وطنية لم تمنع مئات منهم من الخروج في مسيرات غاضبة للتنديد بالحادث الإرهابي، الذي كانت جميع الشواهد تؤكد أنه نفذ بواسطة ميليشيا مسلحة، قيل إنها تابعة لإحدى الجماعات التكفيرية التي تنتشر عناصرها في منطقة جبل الحلال وما حوله من مناطق صحراوية وعرة، قبل أن تتواتر الأنباء من الجانب الآخر على الحدود عن تدمير قوات جيش الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; لمدرعتين تابعتين للوحدة المصرية، نجح المهاجمون في الاستيلاء عليهما، والتحرك بهما في اتجاه السلك الحدودي الشائك، ما كان يؤشر لمخطط كان يستهدف بالأساس جر المنطقة الحدودية لمزيد من الاشتعال .
على أحد الأسرة في مستشفى العريش قال ضابط مصري قبل دقائق من استشهاده وهو يبحث عن سلاحه: ldquo;أخذونا على حين غرةrdquo; قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي أحد أهالي العريش الذي لم يقو على منع دموعه التي نزلت بغزارة وهو يلقن الضابط الشاب الشهادتين، في الوقت الذي كانت طائرة عسكرية تحلق فوق المستشفى باتجاه مطار الجورة التابع للقوات متعددة الجنسيات، تقل رئيس الأركان المصري الفريق سامي عنان وقائد سلاح حرس الحدود، وقد أصدر رئيس الأركان أوامره بعد دقائق لقوات خاصة تم استدعاؤها فوراً إلى مكان الحادث، بإطلاق النيران على أي هدف متحرك في مكان الحادث وتمشيط المنطقة بحثاً عن مشتبهين .
حتى صباح أمس الأول لم تتكشف الحقائق في ما يتعلق بالجريمة التي جرت في رفح، لكن ذلك لم يمنع مطالبات قوى سياسية مختلفة في مصر بضرورة البدء فوراً في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لإعادة النظر، بل والمراجعة الشاملة لاتفاقية كامب ديفيد، وهو ما استجاب له الرئيس مرسي على الفور عندما أصدر أوامر واضحة للقائد العام للقوات المسلحة بالبدء فوراً في عمليات سيطرة كاملة للجيش على سيناء .
في نظر كثير من الخبراء فإنه لم يعد أمام مصر الآن سوى البدء فوراً في إجراءات عملية على الأرض من شأنها أن تغير وعلى نحو جذري في ملامح تلك المعادلة الصفرية التي فرضتها بنود كامب ديفيد، التي جردت مصر تماماً من أي قدرات تتعلق بإمكانية الدفاع عن سيناء، إذا ما قررت ldquo;إسرائيلrdquo; اجتياحها في أي وقت، خاصة وقد مهدت المؤامرة لمثل هذا الإجراء الذي قد تتخذه ldquo;إسرائيلrdquo; حسبما يرى كثيرون انطلاقاً من قاعدة الدفاع عن النفس، بعدما مهدت الأجواء دولياً على مدار الشهور الماضية بالترويج لفكرة أن سيناء صارت ldquo;أرضاً غير مأمونة على الإطلاقrdquo;، وأن المنطقة الحدودية صارت مرتعاً لعدد من التنظيمات التكفيرية التابعة لتنظيم القاعدة .
قوات محدودة
لا تقدم القوات الدولية المنتشرة في قاعدتين عسكريتين و30 مركزاً للمراقبة في سيناء، أي دعم في ما يتعلق بمواجهة التطورات التي تشهدها المناطق الحدودية قبل شهور، إذ يقتصر دورها فقط على مراقبة مدى التزام مصر ببنود اتفاقية كامب ديفيد، ومراقبة نشاط القوات المحدودة لحرس الحدود المصري الموجودة في المنطقة، وربما يكفي ذلك في نظر كثير من خبراء القانون الدولي كمسوغ لأن تبدأ الحكومة المصرية في طلب إعادة النظر في بنود الاتفاقية، التي تتضمن في ملاحقها الأمنية نقاطاً تجيز أن يطلب أحد الأطراف إعادة النظر فيها، إذا ما شكل الطرف الآخر تهديداً مباشراً له .
على مدار سنوات لم تتوقف ldquo;إسرائيلrdquo; عن القيام بالعديد من الأعمال العدائية ضد مصر وجنودها على الحدود، إذ لا يكاد يمر عام من دون وقوع حوادث قتل لجنود، فضلاً عن ما تتعرض له المناطق الحدودية من ضرباتئمباشرة دائماً، وغارات تشنها ldquo;إسرائيلrdquo; بشكل متكرر على قطاع غزة، وقد ظلت مصر على مدار عقود من حكم الرئيس السابق حسني مبارك تقابل مثل هذه التجاوزات بالصمت، قبل أن تفتح الثورة الباب أمام لهجة جديدة، تجسدت في منتصف العام الماضي عندما استدعت الخارجية المصرية السفير ldquo;الإسرائيليrdquo; في القاهرة في أعقاب تعرض عدد من جنود حرس الحدود لإطلاق الرصاص من الجانب ldquo;الإسرائيليrdquo;، وما تبع ذلك من موجة غضب شعبية واسعة، بلغت حد اقتحام مبنى السفارة ldquo;الإسرائيليةrdquo; من قبل شبان غاضبين، لينتهي الأمر بمغادرة السفير ldquo;الإسرائيليrdquo; للقاهرة لفترة، قبل أن يعود بعد شهور ليبدأ في البحث عن مقر جديد للسفارة بعد أن صار مقرها المطل على نيل القاهرة على بعد مسافة قليلة من ميدان التحرير غير آمن للدبلوماسيين ldquo;الإسرائيليينrdquo; .
لا بديل أمام مصر بعد حادث رفح الذي راح ضحيته سبعة عشر جندياً وضابطاً سوى إعادة النظر في الاتفاقية برمتها، وبخاصة تلك البنود الجائرة التي تصنف ثلثي مساحة سيناء، والتي تتمثل في المنطقتين (ب) و(ج) باعتبارهما منزوعتي السلاح، باستثناء عناصر شرطية للقيام بأعمال الأمن العادية، إذ يحدد الملحق العسكري التابع للاتفاقية القوات العسكرية المصرية المتمركزة في المنطقة (أ) بفرقة مشاة ميكانيكية فقط، بما لا يتجاوز أفرادها 22 ألف جندي، بينما لا يسمح بالتواجد في المنطقتين (ب) و(ج) سوى لعناصر شرطية بأسلحة خفيفة، وسيارات مدرعة لنقل الجنود، بينما يسمح الملحق للجانب ldquo;الإسرائيليrdquo; بالتواجد في المنطقة ldquo;دrdquo; على الجانب الآخر بأربع كتائب، وهو الأمر الذي ينطوي على تمييز واضح يصبح بمقتضاه، وفي ضوء ما شهدته المنطقة الحدودية من تطورات مؤخراً، من حق مصر المطالبة بإعادة النظر في الترتيبات الأمنية والملحق العسكري للاتفاقية، وعلى نحو يطلق ذراعها للسيطرة على أراضيها، خاصة أن المادة الرابعة من الاتفاقية تسمح بذلك، إذ تتحدث بوضوح في فقرتها الرابعةئ عن حق أي طرف في طلب إعادة النظر في الترتيبات الأمنية، بل وتمنح مصر أكثر من ذلك عندما تتحدث عن ترتيبات أمنية تتم عن طريق قوات تابعة للأمم المتحدة، يرسلها مجلس الأمن .
معالجة الملف الأمني
المؤكد أن إعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد لن تكون التحدي الأبرز أمام مصر من أجل إحكام سيطرتها كاملة على سيناء، ووقف حالة الفوضى التي تضرب الحدود منذ شهور، فمن قبل ذلك يتعين على حكومة الدكتور هشام قنديل التعاطي بالفعالية اللازمة مع العديد من القضايا المهمة التي تمثل حجر العثرة الحقيقي في علاقة سيناء بالمركز، وهنا يطل الملف الأمني باعتباره أحد أبرز الملفات التي تواجه الإدارة المصرية خلال الفترة المقبلة، وهو ملف بحسب كثير من أبناء البادية يحمل الكثير من المرارات، تجاه المركز الذي تعامل معهم على مدار عقود باعتبارهم خارجين عن القانون .
لقد كانت تلك المرارة سبباً مباشراً في أن يطلق أبناء سيناء صرخاتهم تباعاً على مدار الشهور الماضية، مطالبين عبر العديد من الفعاليات الاحتجاجية، بالإفراج الفوري وغير المشروط عن كل المعتقلين من أبنائهم من دون مساومات، وإلغاء كافة الأحكام الغيابية المدنية والعسكرية التي صدرت بحقهم على مدى السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص، وهي السنوات التي شهدت تجاوزات غير مسبوقة من قبل أجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، التي قامت باعتقال عشرات الآلاف من أبناء سيناء، إما من دون مسوغ قانوني، أو على ذمة قضايا غير مكتملة، وهي في ذلك لم تراع طبيعة المجتمع القبلي في المنطقة، ولا الأعراف والتقاليد التي تحكمها، والتي تجعل من اقتحام البيوت جريمة لا تضاهيها جريمة، حتى لو تم هذا الاقتحام لتوقيف مطلوب على ذمة قضية .
المؤكد أن مصر لن تتمكن من فرض سيطرتها الكاملة على سيناء عبر مراجعة بنود اتفاقية كامب ديفيد وحدها، وإنما عبر خطة قومية شاملة تستهدف إنشاء جهاز وطني للتنمية يتبع مباشرة مجلس الوزراء، ويكون مقره إحدى محافظات سيناء، يمنح أهالي سيناء للمرة الأولى الحق في تخصيص واستغلال الأراضي، ويفتح أمام عشرات الآلاف من شبابها فرص عمل حقيقية، تربطهم بالوادي وتعزز من أواصر العلاقات بين القلب والطرف الشرقي، وهذا في نظر كثير من الخبراء السبيل الوحيد لصد الخطر القادم من خلف السلك الشائك .
التعليقات