صلاح سالم

بينما كانت العلاقة بين مصر ودولة الإمارات العربية الشقيقة تشهد أكثر لحظات اضطرابها، وضبابيتها، ابتعاداً مما استقرت عليه لعقود طويلة من التواصل الحميم، والاستقرار المكين، كانت العلاقات بين مصر وإيران تشهد انفراجة كبيرة، وكان الرئيس نجاد يتجول في القاهرة القديمة، ويتبادل التصريحات الودية مع الرئيس مرسى، خروجاً عما استقرت عليه لعقود طويلة من النفور الشديد، والشك المقيم، ما يمثل مفارقة كبرى في السياسة الخارجية المصرية، لا نظنها تعبر عن هوى المصريين، أو تعكس ميولهم بأي حال، بقدر ما تعكس مزاج جماعة الإخوان المسلمين، وتكشف عن هواهم الفئوي، ورغبتهم العميقة في المناورة على مصالح المصريين والمقامرة بمصائرهم.

شخصياً، كنت دوماً، ولا زلت، واحداً ممن يعتقدون بضرورة الحوار مع إيران، باعتبارها دولة إسلامية، كان ممكناً لو حسنت نياتها أن تكون ظهيراً للعرب في كتلة استراتيجية تمثل الإسلام الحضاري، وتعمل كحائط صد ضد الهجوم الصهيوني - الأميركي على المنطقة خصوصاً في الفترة التالية على الغزو الأميركي للعراق، والتهديد بغزو سورية، والحرب الإسرائيلية على لبنان وغزة. بل إننى ممن لا يخشون قط من البرنامج النووي الإيراني حتى لو كان عسكرياً، حيث أعتقد بيقين لا مجال فيه للشك بأن احتمالات استخدام السلاح النووي الإيراني ضد العرب تبقى أقل بكثير من احتمالات استخدام السلاح النووي الإسرائيلي ضدهم، مهما كان عمق الخلافات بين العرب وإيران، لأن العدو الحقيقي، الكامل والمطلق هو إسرائيل، فيما إيران جار مسلم، وشريك حضاري، وإن أثارت الجيرة الجغرافية، والشراكة الحضارية، مشكلات حقيقية وصراعات كبيرة على المصالح، إلا أنها لا تبلغ أبداً حد العداء المطلق. ولأنني أعتقد أيضاً بأن امتلاك طرف آخر غير إسرائيل لهذا السلاح المدمر سيكون البداية الحقيقية للتعامل بجدية مع فكرة إخلاء المنطقة منه، عبر نزع متبادل له من إسرائيل وإيران معاً، إذ من دون خشية إسرائيل الحقيقية من احتمالات انتشاره في المنطقة، واستخدامه ضدها سيبقى الحديث عن إخلاء المنطقة منه محض هراء سياسي وثرثرة ديبلوماسية.

كما أثق بأن مصر، ككتلة موازية تعادل الكتلة الإيرانية، وربما تفوقها بمجرد أن تخرج من أزمتها الراهنة، هي المؤهلة لقيادة هذا الحوار، ولعب دور الجسر بين إيران وعرب الخليج خصوصاً. غير أنني في الوقت نفسه لا أحمل أوهاماً للحدود التي يمكن أن يصل إليها هذا الحوار، حتى وإن بلغ مستوى التكتل الإستراتيجي في أكثر المشاهد المستقلة تفاؤلاً، فمثل هذا التكتل سينضوي على تنافس استراتيجي بين البلدين، وسيقوم دوماً على توازن رجراج، ولكن فائدة مثل هذا التكتل، أياً كانت صيغه، هي أنه سيدخل إيران في الفلك العربي، ويضع حدوداً لقوتها على عكس ما يتصور الكثيرون من أنه سيؤدي الى تغلغلها فيه، وأن عزلتها ستضعفها.

القطيعة العدوانية

لقد تمتعت إيران طويلاً بغيابها عن أي إطار تمثيلي إقليمي، كما استفادت من قطيعتها مع مصر في جعل نفسها أقرب إلى laquo;فاعل شبحraquo; في المجال العربي. فمن ناحية هي قوة فاعلة موجودة في قلب وثنايا أو حتى على هامش المشكلات العربية المتفجرة. ولكنها من ناحية أخرى غير مرئية بوضوح، وغير ممكن حسابها لأنها خارج إطار أي نسق للتفاعل الإقليمي بحيث تصعب مراجعتها، وغير محاطة بنسيج تفاعلات محكم بحيث يمكن تحميلها أعباء سياستها غير الراشدة؛ ذلك أن من أدوات العقاب الأساسية التهديد بدفعها خارج ذلك الإطار الإقليمي الذي تنضوي فيه، أو حرمانها من نسيج العلاقات الودي الذي يحيطها. ويمكننا هنا سرد كثير من الحجج على أن ذلك الموقف الإستراتيجي الذى تمتعت به إيران كـ laquo;قوة شبحraquo; قد صب في مصلحتها، بل كان أكثر عناصر نجاح سياستها في الحقبة المنصرمة على حساب العالم العربي، الأمر الذي يرجح كفة منهج الاحتواء على منهج المقاطعة الذي مورس طويلاً في مواجهتها. ولكن هل أحسنت مصر إدارة عملية الانتقال بين المنهجين؟ لدينا هنا تحفظان أساسيان:

التحفظ الأول على التوقيت، فثمة تسرع واضح في المسلك المصري إلى درجة تشي وكأنه مجرد رد فعل من النظام الجديد على مسلك النظام القديم، خضوعاً لدوافع نفسية معروفة، ولقاعدة تقليدية ليست صادقة دائماً وهي أن أعداء عدوي أصدقائي، والعكس. ومن ثم لا بد من أن يكون النظام الجديد أكثر قبولاً وتواصلاً مع إيران، لمجرد أن النظام السابق أوغل في القطيعة معها. لقد بدأت مصر هذا التحول في وقت تعج فيه بمشكلات كبيرة، وتمر بحالة من الوهن تجعلها غير قادرة موضوعياً على المشاركة المتكافئة فيه، والخروج منه بالفائدة المرجوة. بل إنها بدت، عبر النخبة الإخوانية، وكأنها تسعى، عبر التقارب مع إيران، إلى الخروج من فلك أزماتها الداخلية، والتغطية على حالة الاستقطاب الشديد، الذي يضغط على الحكم، ويؤزم الحالة الاقتصادية والمعنوية، على نحو يكاد يمثل نزوعاً هروبياً إلى الأمام، خصوصاً مع عدم استقرار الوضع في إيران، وازدواجية الخطاب السياسي لديها حيال مصر بين معتدلين ومحافظين، ما كان يفرض على مصر أن تتروى: من ناحية حتى استقرار وضعها الداخلى، وضمان المشاركة من موقف يتسم بالقوة ويستند إلى الإجماع الوطني. ومن ناحية أخرى للتيقن من توافر الإجماع لدى النخبة الإيرانية على التقارب مع مصر، ومن تثمين المخطط الإستراتيجي الإيراني لهذا التقارب، فلا يكون هناك مجال لرد فعل سلبي حال عدم توافر هذا الإجماع، أو ذلك التثمين.

أما التحفظ الثاني فهو التمهيد لهذا التحول بحوار مصري خليجي واضح وشفاف يشرح منطقه ويكشف عن أهدافه، خصوصاً أن مصر، بغض النظر عن قضية التشيع التى لا أراها محورية أو ذات قيمة حقيقية، ليست لها خلافات مباشرة مع إيران، وأن العلاقة بين البلدين طالما دارت حول أمن الخليج العربي منذ الحرب العراقية - الإيرانية على الأقل، ومنذ أصبحت دول الخليج قبل خمسة عقود تقريباً بمثابة الظهير المصري الذي يستوعب حركة العمالة والاستثمار والسياحة والثقافة معاً، إلى درجة وصلت من التشابك حد عدم القدرة على الاستغناء، ومن التركيب حد العجز عن التفكيك.

وفي الحالة الإماراتية، على وجه الخصوص، ونتيجة لأزمة الجزر الثلاث المحتلة إيرانياً، كان واجباً أن يتجاوز الحوار حد التفاهم إلى درجة التضامن مع الموقف الإماراتي، والتفكير في مسالك لحل المشكلة سياسياً أو قانونياً، حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل الحوار مع إيران، فمن دون أن يكون هذا الحوار طريقاً لضمان أمن الخليج لن تكون له قيمة طالما أن مصر ليست طرفاً في صراعات مباشرة مع إيران، وطالما أن مسألة الاختيار بين إيران من جهة، ودول الخليج العربية من جهة أخرى، غير مطروحة أصلاً ليس فقط عملياً بحكم مستويات التشابك في المصالح مع الأخيرة، بل ومبدئياً بحكم أن العلاقة معها نتاج هوية قومية وانتماء ثقافي، وهوى عاطفي لا تخطئه العين المجردة، ومن ثم فإن نجاح مصر في التقارب مع إيران، على حساب الدول الشقيقة في الخليج، خصوصاً الإمارات لا يعدو، في نظر عموم المصريين، أن يكون بمثابة عملية ولادة متعثرة، يخرج منها الطبيب مبشراً أهل الزوجة بأن الجنين قد مات، وأن الأم أيضاً ماتت، فليحمدوا الله على بقاء الأب.