عمّار علي حسن


على مدار عقود من الزمن دار سجال بين جماعات وتنظيمات سياسية تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها وبين القوى التي ترفع لواء العروبة حول العلاقة بين الإسلام والقومية، ورأى أتباع الفريق الأول أن هناك تناقضاً بينهما، على اعتبار أن القومية سلسلة من المبادئ الجزئية المتصلة بظروف جماعة معينة من البشر واحتياجاتها، أما الإسلام فهو رسالة أبدية وعالمية لا تميز بين الناس إلا بالتقوى، ولذا فهو يتحفظ على سعي القوميين لتعظيم العروبة كقيمة داخل الإسلام. ولكن أتباع الفريق الثاني لم يروا أي تناقض لأن العربية ليست ديناً بديلًا وإنما هي لسان.

وكانت البداية مع الرواد التجديديين حين أخذوا يدعون إلى الجامعة الإسلامية، وتحولت دعوتهم من عاطفة ولاء ديني محض إلى رابطة اجتماعية لها هدف سياسي معين، وذلك تحت لواء الدولة العثمانية، بعد القيام بسلسلة من التحديثات السياسية والاجتماعية.

وفي منتصف القرن الماضي أصبح من الممكن التمييز بين تيارين من مفكري الإسلام في نظرتهم لمسألة القومية، فالشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده في جانب، ورشيد رضا وحسن البنا وعبد الله النديم في جانب آخر، فالفريق الأول على رغم تأكيده ضرورة التمسك بالدين كقيمة عليا كان ينظر إليه نظرة براجماتية وسيطة بين القومية والإسلام، في حين نظر الفريق الثاني للدين نظرة تقديس، ورأى ضرورة لـquot;الخلافة الإسلاميةquot;.

ولكن الجميع اتفقوا على ضرورة الدفاع عن الهوية الإسلامية، فجمال الدين الأفغاني يقول: quot;اعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبيةquot;. وعبدالرحمن الكواكبي على رغم أنه سعى لتنمية الوعي العربي، وأكد ظهور الاتجاه القومي إلا أن رؤيته هذه كانت مضبوطة بإطار إسلامي. ولذا ظهرت آراء توفق بين العروبة والإسلام، فما دامت العروبة حلقة في إطار quot;الأمة الإسلاميةquot; والوحدة العربية نواة لوحدة إسلامية، فإن الأمر مقبول لدى القوى الإسلامية، أما لحظة القطيعة، فقد بدأت عند تبني اليسار للقومية، وعندما بدأ بعض المفكرين المسيحيين العرب يدعون إليها، ويرصد الباحث الفرنسي فرانسوا بورجا هذه اللحظة التاريخية قائلاً في كتابه quot;صوت الجنوبquot;: quot;رغم أن العروبة خرجت من أحضان الإسلام الذي كان أول من جمع القبائل المتناثرة في دولة واحدة، إلا أن ارتباط العروبة في الآونة الأخيرة باليسار ووجود بعض الصفوة المسيحية فيها وتخليها عن الدين كإطار مرجعي لها جعل التيار الإسلامي يبتعد عنهاquot;.

فالمتأسلمون يعرفون جيداً أن ساطع الحصري أخرج الدين من عداد مقومات القومية ونحا زكي الأرسوزي نحوه، ويدركون أن ميشيل عفلق إن كان قد حاول ألا يصطدم بالإسلام بشكل واضح في هذه النقطة، فقد أراد أن يجعل من الإسلام قومياً عربياً. ويعون بشكل دقيق أن عبدالناصر إذا كان قد ربط بين القومية والإسلام ونبذ الشيوعية وبعض مقولاتها حول الصراع الطبقي والإلحاد والحتمية التاريخية، إلا أنهم لا ينسون له على الإطلاق أنه العقبة التي وقفت في طريقهم للوصول إلى سدة الحكم، وأنه الزعيم الذي واجه جماعة quot;الإخوانquot; مرتين، عقب حادث المنشية 1954 وفي عام 1965.

وظل المتأسلمون ينتظرون تضعضع سطوة القوميين حتى كانت فرصتهم بعد هزيمة 1967 التي سبقها فشل بعض مشروعات الوحدة، مثل انفصال سوريا عن مصر عام 1961، وفشل الوحدة المصرية مع العراق وسوريا عام 1963، وكان quot;الإخوانquot; في سوريا مشجعين لهذا الانفصال بسبب معارضتهم لعبدالناصر على غرار quot;إخوانquot; مصر.

ولخص الدكتور حسن الترابي موقف قطاع عريض من المتأسلمين من القومية حين قال: quot;إن القومية جاءت نتيجة انفعال بعض المسلمين وكثير من النصارى العرب بتاريخ أوروبا وجنوحهم عن الدين والانتماء الديني معتقدين أن تجربة أوروبا عبرة مطلقةquot;. فهذا في نظره سبب جوهري لرفضها، أما السبب الآخر الذي يراه مبرراً لرفض الإسلامية للوحدة العربية، أو عدم تدعيمها بوجه إيجابي فهو إدراكهم أن هذه الوحدة ليست تحقيقاً جزئياً لأحلامهم في وحدة الأمة الإسلامية ولا تعزيزاً للعروبة التي يرجى منها أن تدعم الإسلام، بل هي تطور يهدد الحركة الإسلامية ويسد عليها أبواب الحرية.

ومن هنا نجد أن العروبة تتراجع في أيديولوجية الحركة الإسلامية إلى الوراء لتقفز الأمة الإسلامية كدائرة للولاء وتتقدم عليها، ولكن هذا يطرح على المتأسلمين نقطتين أساسيتين هما:

1 ـ مدى تعمق رؤية بعض الإسلاميين، لكون عوامل إقامة الدولة العربية الموحدة أقوى مرحلياً من عوامل إقامة الدولة الإسلامية الواحدة، ولذا فإن توحيد العرب هو أقرب وأنجح السبل لتوحيد المسلمين أو هو النواة الأولى لذلك. وفي المقابل يرى بعض المعتدلين القوميين أن الدولة العربية الموحدة يمكنها أن تنظم شبكة علاقات متينة مع الشعوب الإسلامية في ظل إطار المصالح المشتركة.

2 ـ رؤية أتباع التنظيمات والجماعات المتأسلمة أن حركتهم يمكن أن تشكل شبكة تنظيمية موحدة ذات مغزى خاص بمآلات الأمة العربية، ففي العالم العربي تنظيمات قومية كالبعث والناصريين، وأخرى متفرقة في جملة الأقطار العربية كحزب التحرير، ولكنها ليست ذات شأن، أما الشيوعيون فقد تراجعت قوتهم، والأحزاب الوطنية لا تعبر الحدود إلا قليلاً، ولذا يثار التساؤل: ما مدى إمكانية أن تبقى الروابط وشبكة العلاقات المتعلقة بالدين الإسلامي همزة وصل قوية بين الشعوب العربية؟

وكان قد حدث تقدم على هذا المضمار حين اجتمع في بيروت في أواخر عام 1994 ممثلون عن الإسلاميين والقوميين في مؤتمر مشترك ضم لفيفاً من مفكري التيارين يعطي إشارة واضحة على التقارب الإسلامي القومي، خاصة أن هذا المؤتمر كان استكمالاً لندوة القاهرة التي عقدها الفريقان في عام 1988، ما دل وقتها على تطور هذا الاتجاه وتناميه، ولاسيما أن هذا المؤتمر انعقد بانتظام في السنوات اللاحقة. ولكن هذه الفكرة تتراجع الآن مع وصول quot;الإخوانquot; إلى الحكم في مصر والنهضة في تونس، حيث عاد الحديث عن خلافة من غانا إلى فرغانة دون النظر إلى إمكانية تحقيق هذا، وقفزاً على الشروط الأفضل المتوافرة لقيام تنسيق عربي أشد، بشرط أن تخلص السلطات الجديدة لأوطانها أولاً، ثم للعالم العربي الأكثر تجانساً من العالم الإسلامي لأسباب عديدة ثانياً.