عبدالله خليفة الشايجي

انتقدت في مقالي السابق في «الاتحاد» المعنون «عقيدة الفشل الاستراتيجي» سياسة الصبر الاستراتيجي لدى إدارة الرئيس أوباما، مؤكداً أن مشكلة هذه الاستراتيجية تكمن في أنها لا تخيف أو ترعب خصوم أميركا، بل يفسرونها كما يفسرها خصوم أوباما الجمهوريون بأنها ترجمة للتردد والضعف وفقدان الزعامة. كما تقلق الاستراتيجية أيضاً حلفاء أميركا، وتزيد من هاجس تشكيكهم في واشنطن وقدرتها على الالتزام بوعودها وتحالفها الاستراتيجي معهم.

ومع دخول التفاوض بين إيران والستة الكبار المرحلة النهائية للتوصل لاتفاق إطار حول برنامج طهران النووي، في نهاية مارس الجاري، تسقط الأقنعة وتزداد لعبة عض الأصابع وكشف المستور في سياسة المهادنة والمحاباة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. وخاصة أن الخلاف العقائدي- والإيديولوجي، وإرث المظالم، لم يمنعهما من التنسيق والتعاون والتحالف في مواجهة خصم مشترك هو تنظيم «داعش»، وقبل ذلك في العراق، وأفغانستان، أو عقد اجتماعات سرية، وعلنية، وتبادل رسائل وصلت إلى أربع من الرئيس أوباما ورد المرشد الأعلى برسالتين، وقد كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» مضمون آخر تلك الرسائل من المرشد لأوباما الأسبوع الماضي. قبل أن تنفي إيران توجيه رسالة لأوباما في اليوم التالي.

&

والتودد والمحاباة الأميركية تجاه الخصم الإيراني يذكرنا بتجربة التودد والمحاباة التي عيّر بها الغرب رئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشمبرلين عندما لم يواجه عدوان هتلر في بداية الحرب العالمية الثانية. وكذلك التودد والمهادنة لروسيا التي اتهم بها مسؤول أميركي كبير المستشارة الألمانية ميركل، لرفضها إرسال أسلحة للحكومة الأوكرانية. وأيضاً التودد والمحاباة نفسها التي يتحدث عنها صقور الجمهوريين في الكونجرس ونتنياهو -الذي أحدثت دعوته من رئيس مجلس النواب جون بينر لإلقاء خطاب في جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس غداً الثلاثاء عن خطر برنامج إيران النووي، أزمة في علاقات البيت الأبيض مع الكونجرس وبين أوباما ونتنياهو نفسه. وسنرى تتابع فصولها.

وعلى رغم أنه يبدو أن مرحلة التودد والمحاباة بين أميركا وإيران، أو بين «الشيطان الأكبر» و«محور الشر» سابقاً، تقترب من محطتها الأخيرة، إلا أن حلفاء واشنطن في المنطقة يشعرون بالانزعاج الشديد من تودد ومحاباة أميركا لإيران. ونستغرب من هوس الرئيس أوباما شخصياً بالتوصل لاتفاق نووي نهائي مع إيران لتسجيله كرئيس حقق شيئاً ما في عهده الذي يخلو من أي إنجاز يخلده كرئيس عظيم ترك أثراً وبصمة ما. وكذلك تسجل دول مجلس التعاون الخليجي، وحتى أردوغان، تحفظات وانتقادات لهذا التودد الذي يغفل أوباما في هوسه لوقف برنامج إيران النووي بأي ثمن تمهيداً لـ«الصفقة الكبرى»، التي ستكون بلا شك على حساب دول المجلس، وتكافئ المعتدي وتعزز مشروع إيران التوسعي، بما فيه الصمت على استعراض القوة والتدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة. وهذا يزيد من تسعير الحرب المذهبية والطائفية، ما يهدد مصالح أميركا ومصالح حلفائها والأمن والاستقرار عموماً في المنطقة. وهو أيضاً ما سيُطلق يد إيران أكثر لتصبح هي المرجعية واللاعب الأكثر تأثيراً في ترتيبات المنطقة من اليمن إلى المتوسط.

ولذلك تغاضت أميركا عن إيران وحلفائها، ولم تصنفهم كإرهابيين، ولم تقاتلهم كما تقاتل المتطرفين السنة. ولم تفرض عليهم عقوبات في العراق وسوريا واليمن. وإن كانت أميركا وجهت رسالة قوية لقلب الطاولة على طهران، حين أغلقت سفارتها في اليمن، وحذر البنتاغون من أن سيطرة الحوثيين على مقاليد السلطة تؤثر سلباً على حرب أميركا على «القاعدة»، وهذه رسالة أميركية ثانية لإيران. وعلى الرغم من أن واشنطن لم تصف ما قام به الحوثيون بـ«الانقلاب»! ولم تنقل وتستأنف أعمال سفارتها في عدن كما فعلت معظم سفارات دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها أرسلت رسالة ثالثة قوية ومدوية لإيران تنهي فيها مرحلة التودد والمحاباة. فبعد صمت أشهر على سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين، وانقلابهم على الشرعية في سبتمبر 2014، قلب جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، الطاولة على إيران، واتهم في جلسة استماع في الكونجرس للمرة لأولى الشريك الإيراني غير المعلن، بلعب دور أساسي في إسقاط الحكومة اليمنية. وردت إيران بغضب «رافضة تلك الاتهامات التي تناقض الموقف الأميركي السابق!».. ولكن، ‬‏ماذا يعني ذلك؟

واضح أن هذه المناورات من واشنطن وطهران ترتكز بين الطرفين على الملف النووي، وقد قررت واشنطن بعد أن سكتت دهراً على تجاوزات إيران مدعية أنها لا تملك أدلة قاطعة على دورها في دعم الحوثيين، وبعد إغلاق السفارة الأميركية والانسحاب الجماعي من اليمن، وعرقلة حرب أميركا على «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، ‬‏تلوح واشنطن أخيراً بورقة اليمن بعد دخول مفاوضات النووي‬‏ مرحلة حاسمة، مع التهديد بالانسحاب من التفاوض! وكل ذلك لا يعدو كونه أوراق ضغط لتحييد وحرق أوراق إيران القوية لإجبارها على تغيير حساباتها، ودفعها لتقديم تنازلات مهمة للتوصل لاتفاق إطار حول برنامج طهران النووي في نهاية مارس الجاري، تمهيداً للتوصل لاتفاق نهائي نهاية يونيو المقبل.

ولذلك بات على إيران استيعاب أبعاد لعبة العلاقة غير الندية مع واشنطن، وأن الشريك الأميركي مستعد لقلب الطاولة عليها. والمهادنة والمحاباة ليست من سمات واشنطن الدائمة، بل هي آنية ومؤقتة، تفرضها المصالح والبراجماتية. وإن الدهاء ليس حكراً على الفرس كما توهمت وفاخرت إيران لقرون!
&