وفيق السامرائي

لم يكن متوقعا أن يثير التقدم القتالي للقوات المشتركة العراقية في محافظة صلاح الدين حفيظة أميركية غير عادية، انعكست بتصريحات كبار المسؤولين ومنهم رئيس الأركان العامة الجنرال مارتن ديمبسي، الذي شكك في قدرة القوات العراقية على الانتقال إلى مستوى أعلى من التدريب، وأعلن عدم الاستعداد لزيادة الغارات الجوية، التي تتطلبها العمليات التعرضية الواسعة. كما لم يخفِ الأميركيون قلقهم من احتمال أن تؤدي عمليات تحرير صلاح الدين إلى إثارة حرب طائفية. وكل هذه المؤشرات تدل على اضطراب كبير في تحليل الموقف الاستراتيجي، وقد تعكس حالة ظلامية من التشاؤم عن صورة العلاقات المقبلة مع بلد ظنوا أنهم قادرون على قلب المعادلات من خلال برامجهم فيه.
عندما رشح المالكي للولاية الثانية قبل نحو 5 أعوام وقف الأميركيون إلى جانبه بقوة موازية للتأييد الإيراني، وبتوافق الطرفين تمكن من الفوز على منافسيه السياسيين. أما في الولاية الثالثة فقد وقف الأميركيون ضده بقوة، فهل كانت قراءتهم له خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه قاصرة؟ وهل كان عدم التفاعل الأميركي مع تحضيرات «الدواعش» لاحتلال الموصل مقصودا لإحباط المالكي في تمسكه بالحكم؟ أم أنهم لم يتحسبوا لنيات «الدواعش» كما يفترض؟ والحالتان تدلان على اضطراب استراتيجي.


وكان الخطأ الأميركي الخطير قد جاء برفض الأميركيين تقديم المساعدة العسكرية الفورية لمجابهة احتمالات تعرض أمن بغداد لخطر شديد، وربطهم التدخل بحصول تغييرات في السياسة العراقية. وكانت هذه رسالة واضحة لإيران للتدخل، عن قصد أو دون قصد. وبالفعل كان الفعل الإيراني بمستوى خطورة الموقف العالية، لكن بطريقة تدل على دهاء وهدوء مميزين، وبقيت قراءات الآخرين لمستوى التدخل تعتمد على التكهنات وتقارير استخبارات لا تخلو من التعقيد.


وجرى تغيير المالكي، وحظي رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي بتأييد عراقي وإقليمي ودولي مميز، وقام كبار المسؤولين العراقيين بجولات متعاقبة من الزيارات الخارجية، على أمل التعبير عن وجود سياسة عراقية جديدة تختلف عن سياسات السنوات الماضية. ولم تظهر مؤشرات على متغيرات حاسمة في رؤية الدول العربية تجاه العراق، وهي حالة لم تكن في حاجة إلى تفسيرات عميقة، فظاهرها يدل على الغاطس من توقعات المستقبل، غير أن العراقيين حرصوا على إظهار التغيير إلى حد المبالغة.


شيء محبط أن يتلقى العراقيون تحفظات أميركية على عمليات تحرير صلاح الدين، التي تمثل مستوى متقدما من تطور القدرات العراقية. وبنيت التحفظات على رؤية أميركية لدور إيراني كبير في تعزيز القوات المشتركة العراقية عموما وقوات الحشد الشعبي تحديدا. وهو خطأ أميركي مضاعف، إذ كان عليهم زيادة ضرباتهم الجوية، وتعزيز القوات العراقية بالمعدات القتالية، وتنفيذ صفقة تجهيز القوة الجوية العراقية بطائرات الـF16 المتفق عليها منذ فترة طويلة تجاوزت المدد المحددة للتسليم. وفي هذه الحالة لن يجد العراقيون من خيار غير البحث عمن يعزز موقفهم العسكري، وأقرب وأقوى من هو مستعد للقيام بذلك هم الإيرانيون تحديدا.


لا رئيس الوزراء العبادي بكل نياته الطيبة، ولا غيره، يمتلك القدرة على إحداث طفرة في العملية السياسية ولا في مستوى العلاقة مع إيران، فمشكلة رئيس الوزراء أنه يواجه ضغوطا من خصوم المالكي السابقين، ومن كتلة على الأقل من المحسوبين على العرب السنّة، ولم يتفهموا أهمية إعطائهم المزيد من الوقت لغرض التغيير التدريجي الهادئ، وكذلك صعوبة اتخاذ قرارات تزعج صاحب القرار الإيراني، لا سيما بعد بروز الحاجة الملحة إلى دعم إيران في صد «الدواعش»، وهي مسألة حساسة للغاية، وليس من المعقول تحميل العبادي وزرها.


الكرة الآن في الملعب الأميركي، فإن اختاروا تقليل دعمهم القليل أصلا للعراق، في حالة عدم إقدام حكومة بغداد على تقليل النفوذ الإيراني، فسيجدون أنفسهم في حالة تراجع سريع إلى حالة الجفاء التي ليس مستحيلا تحولها إلى شبه قطيعة أو خصومة سياسية. ومن مصلحة أميركا أن تحث نائب الرئيس جو بايدن على وقف تشجيعه لمشاريع أقلمة العراق وفق نظام فيدرالي لم يدرك أبعاد مخاطره التدميرية على العراق، غير أن السياسة الأميركية لا تزال قاصرة عن فهم المعطيات المحلية ومستوى التهديد ودرجة تعاظم النفوذ الإيراني بعد سقوط الموصل، فكل شيء قد تغير، وإحداث تغيير على اتجاهات متعاكسة لن يتحقق قبل عقود من الزمن.