عبد الملك بن أحمد آل الشيخ

يعتبر البحث في تراجع القوة الأميركية على حساب القوة الصينية من أكثر المسائل حضورا، خاصة في الأدبيات السياسية الغربية وفي الولايات المتحدة على وجه التحديد، وقد صدر العديد من الكتب والبحوث والمقالات، كما عقدت الندوات والمناظرات ونفذ العديد من استطلاعات الرأي التي تبحث في فرضية أن القرن الأميركي قد انتهى. ويرى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ» في مقال له نشر في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 19 أغسطس (آب) 2008 بعنوان «لن يستطيعوا المضي أبعد من ذلك» قال فيه إن النظام العالمي في تراجع، وإن الصين قدمت نفسها كنظام جديد، تمتزج فيه الشمولية بالحداثة، ويمثل تحديا للديمقراطية الليبرالية، خاصة أنه يحظى بشعبية وقبول لدى كثير من دول العالم.. إلا أنه عاد في المقال نفسه ليؤكد أن الرأسمالية لا تزال بلا منافس حقيقي، وأن المنافس لها في مجال الأفكار هو الإسلام الراديكالي. وفي كتاب «عالم ما بعد أميركا» (The Post American World) للكاتب الأميركي فريد زكريا الصادر عام 2008 يستشرف فيه الكاتب مستقبل العالم والولايات المتحدة، وخلص فيه إلى أن دولا كالصين والهند، إضافة إلى البرازيل وروسيا، أصبحت تنافس القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم «الولايات المتحدة».


ويرى بعض الباحثين الأميركيين أن تنامي القوة العسكرية الصينية هو الخطر الحقيقي الذي يهدد الولايات المتحدة في المستقبل. كما أوضح ذلك نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق Jud Babbin ومحلل الشؤون الدفاعية Edward Timperluke في كتابهما «لماذا الصين تريد الحرب مع أميركا؟» Why China wants war with the United States? ؛ إذ يريان فيه أن الصين أخطر على أميركا من الإسلام الراديكالي.
وفي المجال الاقتصادي فإن الخطر الصيني الذي يهدد الولايات المتحدة يتمثل في قوة الاقتصاد الصيني الذي يتضاعف كل 7 أعوام، وقد حذر وزير الخزانة الأميركي السابق Lawrence summere مما سماه توازن الإرهاب المالي، المتمثل في سياسة الاقتراض الأميركية من الحكومات التي تعارض سياساتها المصالح الأميركية، ومنها الصين.
&

وقد قادتني قراءاتي المختلفة حول تراجع القوة الأميركية إلى التسليم بهذه الفرضية، إلا أن رسالة إلكترونية وصلتني بتاريخ 27 فبراير 2015 من البروفسور المتميز في جامعة هارفرد جوزيف ناي صاحب نظرية «القوة الناعمة» يحيطني علما بصدور كتابه الجديد المعنون «هل انتهى القرن الأميركي؟» (Is The American Century Over?) الصادر في شهر يناير 2015 ويسأل عن انطباعي حول ما جاء فيه. وقد استحسنت أن يكون ردي للبروفسور ناي من خلال مقالة أنشرها، أستعرض فيها بعض ما كتب حول تراجع الهيمنة الأميركية ومن وجهات نظر مختلفة، بما في ذلك الإصدار الأخير (لجوزيف ناي) الذي يخالف فيه الكثيرين ممن كتب عن انتهاء القرن الأميركي، ليكون رأي السادة القراء وليس رأيي هو المعتبر، حول فرضية نهاية القرن الأميركي.


فهل نحن أمام تراجع للهيمنة الأميركية في القرن الحادي والعشرين كما يراه العديد من الباحثين وكما توصلت له العديد من استطلاعات الرأي؟ أم أن الهيمنة الأميركية باقية كما يوضحه البروفسور جوزيف ناي في كتابة الجديد؟
يبين جوزيف ناي في كتابه أن تراجع الدول أمر صعب تعريفه، فعندما خسرت بريطانيا مستعمراتها في أميركا الشمالية كان الانطباع السائد في وقتها أن ذلك يمثل نهاية العصر الذهبي لبريطانيا. وفي الواقع كانت بريطانيا العظمى في قمة مجدها من خلال ثورتها الصناعية، وفي الستينات الميلادية كان هناك شعور عام لدى الأميركيين بأن بلادهم في تأخر وأنها في طريقها للتراجع، ولكن في نهاية القرن العشرين اختفى الاتحاد السوفياتي، وفي الثمانينات الميلادية بينت استطلاعات الرأي الأميركية أن الأغلبية ترى أن بلادهم في تراجع مقارنة بالنجاحات اليابانية المذهلة، واليوم يتكرر نمط التفكير نفسه فيما يتعلق بنظرة الأميركيين للصين.


إلا أن التاريخ أثبت أن قياس المواقف من خلال استطلاعات الرأي يبين لنا المستوى الذهني للناس، إلا أنها في العادة لا تعكس الواقع الجيوسياسي، كما يبين ناي أن هناك فرقا بين التراجع الفعلي والتراجع النسبي، فالتراجع الفعلي يحدث للدول التي تعاني من معوقات داخلية، وبالتالي تكون قابلة للاحتلال من قبل الآخرين، أما التراجع النسبي فهو الذي تكون فيه الدولة في وضع جيد، ولكن الآخرين في وضع أفضل، ويخالف ناي من يصف بعض المؤسسات الأميركية بالاضمحلال، وأنها في حالة قريبة من حالة الإمبراطورية الرومانية قبل سقوطها، ويعلل ذلك بوجود اتجاهات قوية في أميركا تختلف عن سيناريو التراجع الفعلي في الإمبراطورية الرومانية:
1) ففي جانب الديموغرافيا، أميركا هي ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وسوف تبقى كذلك حتى عام 2050 وفقا للإحصاءات السكانية للأمم المتحدة.


2) بحلول عام 2020 سوف تكتفي أميركا ذاتيا من الطاقة، كما أنها لا تزال متقدمة في مجال الأبحاث والتطوير، وخاصة في بعض قطاعات التكنولوجيا ذات الأهمية الكبرى في هذا القرن.


ورغم توقعات البنك الدولي (IMF) أن نسبة أميركا من الإنتاج العالمي سوف تتراجع في العقد المقبل إلى 18 في المائة فإن هذا لا يمثل تراجعا لأميركا بالنسبة لناي بقدر ما يعني صعود الآخرين. ومن جانب آخر هو نتيجة للسياسة الأميركية، ومن أهم مفاتيح تلك السياسة بعد الحرب العالمية الثانية إيجاد نظام اقتصادي عالمي يمكن أوروبا واليابان وبقية دول العالم من تحقيق الانتعاش الاقتصادي، ومن ثم الرفاه. وفيما يتعلق بالقوة الاقتصادية للصين، فإن حجم الاقتصاد الكلي في نظر ناي ليس هو المقياس الوحيد لتحديد مدى قوة الاقتصاد من عدمه، فهناك قياس نصيب الفرد من الدخل، وفي هذا تتفوق أميركا على الصين بمعدل 4 أضعاف، وستستمر على هذا لعقود مقبلة. وفي جانب القوة العسكرية، فميزانية أميركا العسكرية تعادل 4 أضعاف ميزانية الصين، وقد يكون صحيحا أن الصين تمضي قدما في تحسين قدراتها العسكرية، ولكن ذلك لا يمثل تحديا لأميركا على المستوى العالمي، بل محصور في البحار المحيطة بالصين.


أما البعد الثالث للقوة، وهو القوة الناعمة، فقد أخذت الصين هذا البعد بجدية متناهية؛ فدمج القوة الناعمة مع القوة الصلبة يعتبر استراتيجية ذكية، إلا أن الصينيين يواجهون مصاعب كبيرة في تنفيذ ذلك، فقد بينت دراسات حديثة أن الصين ليست على وئام مع جيرانها في آسيا، وكذلك مع أوروبا، وحققت نجاحات خجولة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.


ويختم ناي بقوله بأن العلاقات الأميركية - الصينية بالإمكان أن تكون علاقات معقولة وليست تلك العلاقات التي تؤدي إلى مآسٍ فظيعة كالتي شهدها العالم في القرن الماضي. وإذا كانت فرضية أن الصين لن تتجاوز أميركا فرضية صحيحة فهناك المزيد من الوقت لإدارة العلاقات بين الدولتين في ظل أسباب أقل للاستسلام للمخاوف؛ فالقرن الأميركي لم ينتهِ، وهناك مجال رحب للتعاون مع الصين.


وقفة:
ومن أهم الوقفات التي تستحق أن نقف عندها، نحن العرب والمسلمين، في قراءتنا لتلك الفرضيات حول القوى المؤثرة في هذا القرن وما سوف يليه، أننا رغم عدد دولنا الكبير وامتلاكنا للثروات الطبيعية الهائلة والعقول الخلاقة والمواقع الاستراتيجية المهمة، وأعدادنا السكانية، فإن ذلك لم يشفع لنا لنكون لاعبا رئيسا في التفكير الاستراتيجي الغربي في نظرته المستقبلية للعالم. فهل نحن نعيش على هامش العالم والتاريخ؟ وإذا كان الأمر كذلك ترى ما هي الأسباب؟