&&رياض طباره

&

&

&

&

&


&

&

خلال الأشهر الماضية، شهد العالم صراعاً نادراً بين البيت الأبيض والكونغرس، حول الاتفاق الإطار الخاص بالبرنامج النووي الإيراني. فبالإضافة الى التفسيرات المختلفة لبعض بنود الاتفاق الأساسية المتعلّقة بالعقوبات والتفتيش وغيرها، التي صدرت عن الجانبين الأميركي والإيراني، والالتباسات الناتجة منها بين مؤيدي الاتفاق ومعارضيه داخل الكونغرس، وكذلك المعارضة الشديدة من الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ وبعض الديموقراطيين، تركّز الخلاف بين أوباما والكونغرس على صلاحية الرئيس في توقيع وتنفيذ أي اتفاق نهائي يتوصّل إليه الفريقان في 30 حزيران (يونيو) المقبل، الموعد النهائي للمفاوضات، ودور الكونغرس في مراجعته والموافقة عليه، بخاصة بالنسبة الى مجلس الشيوخ الذي، وفق الدستور، يجب أن يوافق بثلثي الأصوات على «المعاهدات الدولية». فالرئيس أوباما أعلن صراحة، أنه لن يطلب رأي الكونغرس حول الاتفاق النهائي، وأنه سيوقعه في حال تمّ التوصل إليه، مستعملاً صلاحيته في توقيع «اتفاقات تنفيذية» لا تجبره على استشارة الكونغرس ونيل موافقة ثلثي مجلس الشيوخ. هذه «الصلاحية» مختلف عليها، ولكنها أصبحت أمراً واقعاً كثر استعماله أخيراً من جانب رؤساء الجمهورية السابقين، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. كما هدّد باستعمال الفيتو حول أي قرار يصدر عن الكونغرس يقيّد من حريته، ما سيتطلب ثلثي الأصوات لتجاوزه، وهو أمر صعب الحصول عليه.

إحدى المشكلات الأساسية التي واجهت أوباما في هذا المجال، كانت تتعلق برفع العقوبات عن إيران، الذي هو مطلب رئيسي للمفاوض الإيراني. فالرئيس لديه صلاحية «تعليق» العقوبات (أو أي قرار من الكونغرس أو أجزاء منه) في شكل موقت، وليس رفع العقوبات، وقد أُعطي هذه الصلاحية لأسباب تتعلق بوجود حالة موقتة لا تسمح بتنفيذ قرار يتّخذه الكونغرس، أو بعض بنوده، بسبب تأثيره السلبي في أمن الدولة أو في أمور مهمة أخرى، بانتظار أن تنتفي هذه الأسباب. غير أن تعليق العقوبات من السهل التراجع عنه «بشحطة قلم» من الرئيس نفسه أو رئيس آخر، بينما رفعها من جانب الكونغرس يتطلّب إعادة النظر فيه كلياً في مجلسي النواب والشيوخ، ونيل الغالبية فيهما عن كل بند فيه، ما يجعل العملية تأخذ وقتاً طويلاً، وبالتالي يجعل رفع العقوبات أكثر ثباتاً من تعليقها. لهذا السبب، أصرّ الإيرانيون في البداية على رفع العقوبات من جانب الكونغرس، ولكن بعد الانتخابات النصفية الأميركية ونجاح الجمهوريين الذين يريدون اتفاقاً متشدداً مع إيران لن تقبله الأخيرة على الأغلب، طالب الإيرانيون أوباما بأخذ الاتفاق النهائي إلى مجلس الأمن للحصول على قرار مؤيد له من المجلس، ما يجعله قراراً دولياً يصعب على الكونغرس تجاهله، على رغم أن غالبية أعضاء الكونغرس وعدت بتجاهله متّهمة أوباما بأنه يخالف الدستور والأعراف في الذهاب إلى مجلس الأمن وطلب غطاء من الشرعية الدولية بهدف تجاوز إرادة غالبية ممثلي الشعب الأميركي، ما قد يشكّل في نظرهم خيانة عظمى. ولذا، قامت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، بعد تداول بين الجمهوريين والديموقراطيين، بتبنّي قرار يجبر الرئيس أوباما على عرض الاتفاق النهائي على الكونغرس، وأخذ موافقته على رفع العقوبات التي أقرها الكونغرس (هناك بعض العقوبات التي وضعت بقرار رئاسي ما زال باستطاعة أوباما رفعها). هذا القرار نال مبدئياً، تأييد جميع الجمهوريين وغالبية الديموقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ .

في خضمّ هذا السجال والتشنّج من الجهتين، تراجع أوباما عن تهديداته وقرّر توقيع القرار. ماذا حصل؟

بالطبع، عدم قدرة أوباما ومساعديه على ثني الديموقراطيين من حزبهم في الكونغرس عن تأييد القرار، جعل أي فيتو من أوباما قابلاً للتجاوز بثلثي الأصوات في مجلسي النواب والشيوخ. هذا التمرد على أوباما ليس إلّا رأس جبل جليد ما زال يتكوّن منذ مدة إلى أن وصل اليوم إلى حافة الانفجار، بخاصة وأن التمرد هذا لم يعد يقتصر على الكونغرس، وبدأ يتعداه إلى المستويين الدولي والمحلي.

بدأت عــلامــات هــذا التـــمرد تظهر بعد نهاية العهد الأول لأوباما، عنـــدما بــدأت تصـــدر مذكرات كبار معاونيه أمثال هيلاري كلينتـــون وزيرة الخارجية، وروبرت غايتس وزير الدفاع، ولـيون بانيتا رئيس الـ «سي آي إي»، ووزير الدفاع بعد غايتس، إذ بدى واضحاً في هذه المذكرات أن أوباما كان على خلاف كبير مع كبار مستشاريه، بخاصة حول سياسته الخارجية الانعزالية، وعدم تدخّله في سوريا في بداية الثورة، وانسحابه من العراق قبل التأكد من استقرار الأمور فيـــه. وباستقالة وزيــر الدفاع الأخير تشاك هايغل في شباط (فبراير) الماضــي، وتعيين آشتون كارتر مكانه، يكون قد وصل أوباما ألى رابع وزير دفاع في ست سنوات. وقد تكون وصلت الأمور، وفق الـ «واشنطن بوست»، إلى تهديد وزير الخارجية جون كيري، المقرّب من أوباما، بالاستقالة، ما اضطره الى اتخاذ قرار التدخّل في العراق وسوريا لمحاربة «داعش».

ظهرت علامات تمرّد الكونغرس واضحة عندما دعى رئيس مجلس النواب، جون باينر، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، لإلقاء خطاب في 3 نيسان (أبريل) من هذه السنة أمام مجلسي الكونغرس مجتمعين، من دون الرجوع إلى البيت الأبيض، ما شكّل سابقة بروتوكولية خطيرة إضافة إلى كونها تعتبر تمرداً على صلاحيات رئيس الجمهورية. لم يقاطع حضور الخطاب سوى عدد قليل من الديموقراطيين، وذلك بسبب ضغط اللوبي الإسرائيلي في شكل رئيسي.

سبقت ذلك ببضعة أسابيع، الرسالة المفتوحة التي أرسلها 47 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ، إلى مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، متخطّين الرئيس أوباما، المسؤول الأول عن السياسة الخارجية الأميركية بحكم مركزه، بخاصة وأنه كان في خضمّ مفاوضات بالغة الحساسية مع إيران. في هذه الرسالة، ينبّه أعضاء الكونغرس المرشد إلى أن الدستور الأميركي يعطي دوراً مهماً للكونغرس في الاتفاقات المبرمة مع الدول، وأن عهد الرئيس أوباما سينتهي في الشهر الأول من سنة 2017، بينما معظم موقّعي الرسالة سيبقون في مراكزهم بعد هذا التاريخ ولربما لسنوات طويلة.

أما ميتش ماكونيل، رئيس الجمهوريين في مجلس الشيوخ، فقد وجّه بياناً الشهر الماضي إلى الدول المشاركة في مؤتمر باريس حول التغير المناخي، الذي ستعقده الأمم المتحدة في باريس في أواخر هذه السنة، ينبّهها فيه إلى أن الخطة المقدّمة من الإدارة الأميركية لتخفيض انبعاث الكربون، غير واقعية ولم تنل موافقة الغالبية في الكونغرس، وأن 13 ولاية وعدت بمحاربتها، ولذا يطلب من هذه الدول أن تكون حذرة قبل الدخول في اتفاق دائم غير قابل للتحقيق.

الأخطر من كل ذلك، قد يكون القرار الذي اتخذه مجلس نواب ولاية أريزونا ذات الغالبية الجمهورية، والذي يمنع أي إدارة رسمية في الولاية من استعمال أي من إمكاناتها البشرية أو المادية، لتنفيذ قرارات رئاسية صادرة عن البيت الأبيض لم تثبّت من الكونغرس، وصادرة عنه في شكل قوانين. كما أصدر المجلس نفسه، قرارات تلغي قرارات تنفيذية سابقة لم تعرض على الكونغرس وتنال موافقته. الخطر الأكبر في هذا المجال، هو في تأثير الدومينو الممكن نظراً الى أن بعض الولايات الأخرى حيث يهيمن الجمهوريين على مجالسها التشريعية، قد تتخذ إجراءات مماثلة. الجدير بالذكر في هذا المجال، أن مثل هذا العصيان من الولايات ضد رئيس الجمهورية، لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة سوى مرة واحدة عندما ألغى الرئيس إبراهام لينكولن، العبودية في ستينات القرن التاسع عشر، انتهى في حينه بحرب أهلية كارثية وباغتياله.

مرّر أوباما برنامجه الصحي الجديد - أوباماكير - عندما كانت لديه الغالبية في الكونغرس، فأقيمت ضد البرنامج دعاوى من أفراد وشركات ورجال دين وغالبية الولايات (حوالى 38 من أصل 50). بعض هذه الدعاوى قضمت أقساماً منه والبعض الآخر ما زال في المحاكم، وواحدة - هالبيغ ضد سيبيليوس - تهدد بانهياره وفق الخبراء. ثم حاول أوباما تجاوز الكونغرس الجمهوري بإصدار قرار تنفيذي بتصحيح حالة حوالى أربعة ملايين مهاجر غير شرعي، ولكن القضاء حكم بإيقاف تطبيق القرار نتيجة لدعوى أقيمت لهذا الغرض من 26 ولاية (حاضراً في الاستئناف). وهناك اليوم مجموعة من أعضاء الكونغرس، بدأت بالتحضير لإجراءات محاكمة الرئيس في الكونغرس (impeachment)، كما حصل من دون جدوى بالنسبة الى الرئيس بيل كلينتون (نجحت في مجلس النواب وفشلت في مجلس الشيوخ)، أو كما حصل سابقاً بنجاح بالنسبة الى الرئيس ريتشارد نيكسون الذي اضطر الى الاستقالة.

في الخــلاصة، فمـــا لا شك فيه هو أن هناك حركة تمــرد حول أوباما بدأت بين كبار معاونـــيه، ثم بيــــن الغالبية الجمهورية في الكونغرس، وبدأت تنتشر بين أعضاء حزبه من الديمــــوقراطيين، كما ظهر من الانتماءات الحزبية لموقّعي القرار الأخير الخاص بالعقوبات علــى إيران، وقـــد وصلت اليوم إلى مستوى الـولايـات وقد تصل في النهاية إلى محاكمة الرئيس داخل الكونغرس. السؤال الآن هو: هل استسلم أوباما وانسحب من المواجهة مع الكونغرس حتى نهاية عهده في كانون الثاني (يناير) من السنة المقبلة، أم أنه سيستعيد قواه ويعاود الكرة بتجاوز الكونغرس إذا لم يعجبه قراره المتشدّد بالنسبة الى رفع العقوبات مثلاً، فيقوم بتعليقها خلافاً لرأي الكونغرس؟ الجواب آت في الأشهر القليلة المقبلة.

&

&

* سفير لبنان السابق في واشنطن
&