&عزت صافي

&

&

&

&

&


&

&

«شروق الشمس»... هذا العنوان أطلقه رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية على مشروع الاتفاق النووي الذي تم بين وفد بلاده وممثلي دول الغرب الأميركي - الأوروبي وروسيا والصين.

كان مشروع الاتفاق نسخة شبه نهائية لا ينقصها سوى تواقيع رؤساء الوفود في موعد لا يتعدى يوم 30 حزيران (يونيو) 2015. وكانت العقدة الصعبة الباقية تتعلق ببند «حق منظمة الطاقة الدولية تفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية، من دون طلب مسبق، أو استئذان، في أي وقت». ولولا تلك العقدة لكانت فرحة إيران تمت في الثالث من نيسان (أبريل) الماضي.

مع ذلك، نزلت في ذلك اليوم مواكب الإيرانيين إلى الشوارع احتفاء بمشروع الاتفاق. في المقدّم فتيات إيرانيات بمظهر عصري يرفعن شارة النصر من أبواب سياراتهن، وفي الساحات العامة حلقات رقص وهتافات تتعالى للمرشد الأعلى. وقد اختفى في ذلك اليوم الهتاف التاريخي الذي وُلد مع الثورة الإيرانية عام 1979: «الموت للشيطان الأكبر أميركا».

لكن المرشد السيد الخامنئي تأخر بعض الوقت ليعلن أن نهاية حزيران 2015 ستكون «مصدر فخر للشعب الإيراني الذي سيلحق هزيمة نهائية بمخطط تخويف العالم من بلده»، ثم أعاد المرشد التشديد على أن إيران لن تسمح لأحد بتفتيش أي موقع عسكري، ولن تسمح باستجواب أحد من العلماء النوويين الإيرانيين، وقد وصف إصرار دول الغرب على تفتيش المنشآت بأنه نوع من الغطرسة.

تلك النبرة العالية بصوت أعلى مرجع إيراني كانت مختلفة وغريبة عن الواقع في الشارع، كما في أروقة الاجتماعات النووية المتنقلة بين مدن وعواصم غربية.

ولقد انتظر المرشد شهراً بكامله ليعود ويظهر أمام العالم في مناسبة الذكرى السادسة والعشرين لوفاة المرشد الأعلى الأول الإمام الخميني، وهي أيضاً ذكرى تنصيب الإمام خامنئي، وقد اغتنم المناسبة ليعلن في اليوم الرابع من حزيران 2015، أن أي تقارب بين إيران والولايات المتحدة الأميركية لا يزال مستبعداً، ثم إنه استعاد وصف الإمام الخميني أميركا بأنها «الشيطان الأكبر».

فعلامَ إذاً تراهن إيران، وعلامَ تراهن الدول الست الكبرى خلال الأيام القليلة الباقية من شهر حزيران الحالي، وقد بات اليوم الأخير منه كأنه يشكل فاصلاً تاريخياً على الصعيد العالمي بين الغرب والشرق؟

لدى إيران صورة تذكارية غالية عليها، وهي منذ ست وثلاثين سنة تسعى لجعلها حقيقة دائمة. وهذه الصورة تتكرر في كل اجتماع يُعقد في إطار المفاوضات النووية. وهي تمثل ثلاثة أعلام متلاصقة. من اليمين علم الولايات المتحدة الأميركية، وفي الوسط علم الاتحاد الأوروبي، وإلى اليسار العلم الإيراني. هذا حلم عظيم تتطلّع إليه الدولة الفارسية الممثلة بالثورة الإسلامية الإيرانية، وتريد تحقيقه. أي أنها لن تدع الحلم يفلت من يدها مهما طال زمن التفاوض، ولديها من الوقت والصبر، ما يفوق التصور، لإنجاز ما يمكن وصفه بأنه «سجادتها» التاريخية للقرن الواحد والعشرين.

لا تخفي الثورة الإيرانية ما تمتلك من قدرات قومية، وثروات، ونفوذ إقليمي قوامه الدين، والقوة، والمال، مع الذكاء السياسي والديبلوماسي، وهي دأبت على الحضور في الاجتماعات الدولية والإقليمية، ممثلة بشخصيات محترفة تبدو مبتسمة، هادئة، مصغية باهتمام، لكنها منطوية على غاية يتطلب الوصول إليها الكثير من الدهاء، والسير البطيء المتعرج، مع الحذر والاستعداد لكل طارئ معاكس.

ولعل المتابعين مسلسلَ الاجتماعات النووية باتوا يشعرون أحياناً بأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً طويلاً. وكما لو أن السيناريو لمؤلف فاشل، والإخراج لآخر غبي، والتمثيل لأسماء لامعة، فيما الأحداث تمر متشابهة، ومتكررة، ومملة، ومع ذلك يظل المشاهدون في مقاعدهم. لا لسبب إلا لأن الفيلم يحمل عنواناً مثيراً، ولا بدّ من البقاء والمتابعة بانتظار النتيجة في النهاية. هذه هي الحال تماماً مع الفيلم النووي الطويل الذي تمدد عرضه حتى نهاية الشهر الحالي.

في هذا الوقت غير الضائع بالنسبة لإيران، لا بدّ من أن طهران جاهزة لمواجهة النتيجة التي قد تظهر في الوقت المحدد، آخذة في الحساب كل الاحتمالات. ولا بدّ من أنها أعدت سيناريو لكل احتمال، ولعل الاحتمال الأول: توقيع الاتفاق.

مسبقاً يمكن تصوّر المشهد الإيراني في طهران وسائر الأقاليم: انفجار التيار الشعبي للثورة ابتهاجاً بالانتصار على «قوى الاستكبار» المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، ومعها دول أوروبا، واستثناء روسيا والصين. وستكون لهذا الانتصار تفاصيل، أولها أن الثورة الإيرانية فرضت إرادتها بحل ما لمشكلة إخضاع منشآتها النووية العسكرية للتفتيش.

التفصيل الثاني، وهو الصعب، تمديد المفاوضات إلى موعد قريب، وعاجل، أو إلى أمد بعيد لا معنى له سوى الفشل، لكنه يتيح للوفد الإيراني أسباباً تمكنه من العودة إلى بلاده باحترام.

أما التفصيل الثالث، المستبعد، فهو إعلان الفشل. حتى هذا الاحتمال له سيناريو إيجابي لدى الإدارة الإيرانية التي لا تنوي الانكفاء عن الاتجاه نحو الغرب. بل إنها قد تقبل تجرع «كأس الصبر» والانتظار، مع الحفاظ على الابتسامة الديبلوماسية المتوعدة.

فالحاصل أن إيران فتحت باباً أمام «الشيطان الأكبر» وأمام أولاده، وأنسبائه، وحلفائه من الأوروبيين، هؤلاء الذين يحملون حقائب مشاريعهم وعروضهم، ودراساتهم، ومشاريع عقودهم، وينزلون في فنادق فخمة في طهران، فيكتشفون أن إيران من الداخل ليست فقط الدولة المعممة التي تظهر في الصور، وعلى شاشة التلفزيون، إنما هي أيضاً بلاد قديمة، وحديثة، ولا بأس إن ظهرت فيها فخامة تعود إلى عصر الشاه البائد نظاماً وتقليداً.

لن تدع طهران هؤلاء الزبائن الدسمين يعودون إلى بلادهم خائبين أو مزودين صوراً مركبة، أو مشوهة. بالعكس، هناك حرص شديد على تقديم صورة جديدة لإيران متمدنة، محافظة، منظمة ومستقرة، تلتزم القوانين والمعاهدات، والمواثيق والعقود.

ثم إن إيران الفارسية تحرص على إظهار عرقيتها، أو عراقتها التي تحاكي حياة الغرب ومدنيته من خلال حضارتها القديمة، بمعزل عن سياسة المكابرة والاستكبار، فضلاً عن الجنوح في بعض الحالات نحو «استعمار» من تستطيع الوصول إليهم عبر مساعداتها المالية والعسكرية والإيمانية.

فإيران تريد حسنات الغرب: علومه. اختراعاته. خبراته. تقنياته. إنجازاته، ما عدا ديموقراطيته وحرياته السياسية والاجتماعية، والثقافية. فإذا استطاعت كسب هذه المعطيات العصرية بالسياسة والمرونة، وبالحرفة والصبر والأناة، فلماذا تضعها جانباً، أو ترفضها وتتخلى عنها كأنها من المحرمات، طالما أن البديل ممكن، وهو التعاون؟

لدى إيران بالتأكيد تحسُّب شديد لاحتمالات ردود فعل سلبية في أوساط شعبية تعتبرها «مغلقة»، لكن هناك سلطة لا ترحم الرفض، أو حتى الاعتراض. ثم إن النظام مطمئن إلى قوته وتماسكه في الداخل، وهو يستمد اطمئنانه من إيمان الغالبية الساحقة من الشعب المسلّمة أمرها، المكتفية بما يتيسر لها من فرص العيش. وكما في ظلّ أي نظام شمولي هناك تنظيم صارم لاستيعاب ثلاثة أجيال إيرانية جديدة شابة توالدت ونشأت وتربت على النظام الديني الحاكم في غياب مطلق لتنظيمات حزبية أو سياسية مستقلة.

لكن، أياً كانت النتيجة فلن تكون مرتجلة أو بنت ساعتها. فهناك «حبل سري» طويل بين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما والقيادة الإيرانية. ولم يمض وقت طويل على آخر رسالة أميركية تسلمتها طهران في أواخر السنة الماضية، وهي الرسالة الثالثة المعلن عنها، أما تاريخ الرسالة الأولى فيعود إلى نحو ست سنوات مضت، أي على أطراف ذلك «الربيع العربي» الذي بدأ من تونس.

لذلك، ليس مستبعداً أن يكون باراك أوباما هو «الحليف السري» لإيران في المفاوضات النووية، كأنه العضو الإيراني الرديف الجالس في البيت الأبيض. فالرئيس الذي سحب الوجود العسكري الأميركي من جميع أطراف العالم، وصالح جمهورية كوبا الشيوعية بعد خمس وخمسين سنة من محاصرتها ومعاقبتها وعزلها، يريد أن يختم عهده بصلح نووي مع إيران. إن لم يكن في شهر حزيران الحالي ففي أي شهر أو يوم قبل نهاية ولايته. هكذا، تتلاقى وتتعاون الدول المتناقضة بالنظام والعقيدة حيث تتساوى المصالح المشتركة عبر المحيطات، وإن على حساب الشعوب وقيم العدالة والإنسانية.

لكنّ ثمة سؤالاً عن الثمن الذي لا بدّ من أن تدفعه إيران مقابل الاتفاق إذا تمّ، وعلى حساب من؟ فلدى إيران حسابات واستثمارات كثيرة خارج حدودها، بدءاً من اليمن، عبر العراق وسورية، حتى جرود لبنان ومدنه وشواطئه. فهل تطالبها الإدارة الأميركية بالدفع؟ وإن طالبتها فهل تدفع، أو تلغي الصفقة؟

يبقى أن إيران النووية إذا كانت تشكل خطراً افتراضياً على إسرائيل فإنها حالياً، وفي الوقائع الجارية على الأرض، تبث خطراً وجودياً، ومدنياً، وأمنياً، ومصيرياً، يطلع من أغوار التاريخ، ويطبق على حياة الشعوب العربية، من مشرقها إلى مغربها.

&


&