&&يوسف البحري

&

&

&

&

&


&

&

تبدو تونس القديمة في رمضان ليلاً، في كرنفال. هل أنجزت الدولة هذا فجأة، أم هو نتاج تراكمات التاريخ؟

ولدت مدينة تونس عام 697 للميلاد، مع المسلمين الذي نقلوا إليها سكان قرطاج على بعد 10 كلم. لكنها ولدت سابقاً باسم «ترشيش» في القرن الثامن قبل الميلاد في زمن الفينيقيين. مدينة في شكل دوائر عمرانية، ولها قلبها أيضاً هو جامع الزيتونة. الدائرة الأولى حول القلب، فيها المتاجر النظيفة: العطارون والملابس والأقمشة والذهب والفضة والمكسرات. ثم دائرة الخياطين وصناع الأحذية والشاشية والقوافي والبرانسية، ودائرة الدباغين والصباغين. أما دائرة المساكن، فهي لا تنفك تتّسع، فيتغيّر مكان السور كل حين، حتى اندثرت غالبيته. ازدهرت تونس بعد خراب القيروان سنة الأخماس (555 هـ/ 1160م). وأصبحت عاصمة الدولة الحفصية منذ 1206 للميلاد. وتلك هي الدولة التونسية التي لم تنقطع إلى اليوم. ظهر النشاط الثقافي منذ بداية التعليم الزيتوني في الدائرة الأولى حيث الدكاكين. ولكنّ شيئاً عميقاً بدّل الأمور منذ العشرية الثانية من القرن العشرين. فتذرى النشاط الثقافي في أنحاء المدينة، وكان شهر رمضان أحد المداخل المهمة. ظهر مقهى café chantant، حيث تُقدم عروض الموسيقى والرقص الشعبيين في سهرات رمضان، فازدهرت الموسيقى النحاسية وأصبحت جزءاً من المشهد الرمضاني. والسبب هو تكاثر محلات الآلات الموسيقية في نهج باب سعدون، وبروز ظاهرة العوادات أي «الفرق الوترية».

&

«مهرجان المدينة»: المنعطف الثقافي

عاشت المدينة على وقع نشاطات فنية وثقافية متنوّعة، على مدى عشرات السنين. لكن لم يظهر مهرجان يؤطر النشاط في مكونات المدينة ضمن رؤية شاملة، إلا سنة 1982. وكان المجتمع المدني هو المبادر، وليس الدولة. كانت الأخيرة تريد من الشعب أن يأتي إلى مهرجاناتها: قرطاج والحمامات، ولم تكن تريد الذهاب إلى حيث هو. لذلك، كان «مهرجان المدينة» بمثابة الردّ الأهلي على النشاط الرسمي. المهرجان لبنة من لبنات تطوّر الاحتفال الشعبي والخروج في رمضان.

عرف الشهر الفضيل، نشاطاً فنياً شعبياً منذ عقود في ميدان الحلفاويين وميدان باب السويقة، بعروض الحوائين والقرادين والبهلوانيين وفن سلاك الواحلين (فن غناء الحكواتية) وعيساوية البلوط (مديح الطعام واللهو تفكها بقوالب الأذكار الجادة). اندثر هذا النشاط، وبقي منه شيء في «ساحة الغنا» في مراكش لا غير. اتّجهت الدولة بعد إنشاء «وزارة الشؤون الثقافية» سنة 1962، إلى النشاط داخل القاعات حيث بنت عشرات دور الثقافة. فعاشت الثقافة حالة دخول قسري من الفضاء الخارجي إلى الفضاء المغلق، وكأنها تدخل بيت الطاعة. تلك ثقافة تمثّل السلطة عند الشعب، وليست تعبيراً عن الشعب. عاش حكم بورقيبة هوس تحديد ماذا يريد الشعب، وليس «الشعب يريد». لعبت وزارة الثقافة دور فصل الثقافة عن الاجتماعي، لتفرض ثقافة عالمية نخبوية من دون أن تكون بالضرورة جيّدة دائماً. فالموظف الإداري حتى وإن تنكّر في ثوب الفنان، فإن الأمر لا ينطلي. ولطالما منعت الدولة من دون قانون، ظهور الفنون الشعبية مثل «المزود» مثلاً (آلة نفخ من جلد الحيوان) في التلفزيون والمهرجانات. فكانت تسعى إلى ضبط الذوق الفني في حين أنها عاجزة عن ضبط سياسة ثقافية. ساهم «مهرجان المدينة» في ميلاد جيل جديد لمهرجانات ينطلق من الناس ولا يصل إليهم، على رغم أن السلطة استعادته شيئاً فشيئاً، وعلى رغم أن غالبية المدن التونسية قلّدته حتى أفرغت الفكرة من محتواها.

&

مهرجان يمشي على قدميه

تدور فاعليات «مهرجان المدينة» في مسلك يبدأ من ميدان «دار بن عبدالله»، وينتهي في «مدرسة صاحب الطابع» بميدان الحلفاويين. مسلك بكيلومتر ونصف الكيلومتر تقريباً. يشقّ المدينة بالعرض مخترقاً الدوائر العمرانية كلّها. مسلك يعجّ بالمراكز الثقافية ودكاكين الفنانين والآلاتية، والمقاهي الثقافية والمطاعم السياحية والأروقة التشكيلية، والمتاحف والبيوتات القديمة، والطابع الأندلسي بأبواب مزخرفة ومطلات خشبية ونباتات تتسلّق الحيطان. يُعنى «مهرجان المدينة» بالموسيقى والغناء والرقص. ويأتي الجمهور زائراً مضمخاً بالحنين إلى نمط العيش التقليدي أو هو من سكان المدينة الذين يعيشون زمنهم الخاص.

وتتوزّع عروض المهرجان على مراكز ثقافية: «مسرح الفنون دار بن عبدالله»، «دار حسين»، «بئر الحجار»، «حدائق قصر خير الدين»، «نادي الطاهر الحداد»، «دار الأصرم»، «دار الباهي»، «مقر المعهد الرشيدي»، «فضاء 13 أوت بالصادقية»، «مدرسة صاحب الطابع». واستعاد المهرجان الفضاء الخارجي بالاحتفال الصوفي بين الزوايا الشهيرة: زاوية سيدي محرز، زاوية إبراهيم الرياحي، الزاوية العزوزية، وزاوية سيدي بن عروس. وعرف ميدان متحف خير الدين، عروض الفنون المعاصرة. وعرض المهرجان أفلاماً في ميدان خير الدين وميدان بن عبدالله وميدان باب السويقة، مستعيداً ظاهرة عرض الأفلام في المخابز في رمضان في ثلاثينات القرن العشرين.

واستعاد المهرجان عروض المقاهي التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي، وكانت الاستعادة في مقهى سوق الشواشية الشهير. ويعني ذلك كلّه، أن المهرجان ترجّل ليمشي بنسق المكان بين الشوارع والأزقة. وأضفى ما يجب من المصالحة بين الاجتماعي والثقافي في سياق الروائح الرمضانية، «مهرجان المدينة» احتفال ولد من رحم المكان. وهو بما هو عليه، قادر على العالمية ما لم تفسده الإرادة السياسية.

في المدينة في رمضان، مهرجانات أخرى: «مهرجان الموسيقى الروحية» الخاص بمركز بئر الحجار، و «ليالي تونس» الذي ينشط بميدان باب السويقة بخاصة، بل في كل مركز ثقافي برنامج رمضاني يضفي حياة موصولة على الشهر المبارك. أقمار كثيرة تدور حول المهرجان الرئيسي، فتعطي لزائري المدينة وسكانها هامشاً واسعاً من الاختيار والمفاجأة والصدفة. مدينة تونس القديمة تدخلها من «باب البحر»، حيث يوجد باب ولا توجد أسوار. كأنه باب سريالي تدخل منه إلى باطن ما، إلى عمق ما، إلى سحر ما، متعة ما تخرجك من إسفلت الحياة المعاصرة.
&