رضوان السيد
قبل خمسة أيام خرج زعيم «داعش» في تسجيلٍ عبر وسائل إعلام التنظيم، ليطلق، بالمصطلح الكلاسيكي وبمناسبة حرب الموصل: «نداء النفير» أو «الاستنفار العام». في القسم الأول من التسجيل حثّ أنصاره على الصمود، ودعاهم إلى الاستقتال في مواجهة المهاجمين، وأمَّلهم بالنصر والعزّة، أو بالشهادة (إحدى الحسنييْن). لكنه في القسم الثاني، وعندما كان المطلوب تحديد الأعداء الذين يكون على التنظيم الاستماتة في مواجهتهم، مضى باتجاه تركيا والسعودية، باعتبارهما العدوَّ المستهدَف، وليس إيران مثلاً أو الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» المتأيرن. قال إنه سيحوّل أرض تركيا إلى دار حرب، وإنّ المملكة ليست حقيقةً بحماية الحرمين والإسلام، لأنها تُعادي «دولة داعش» وتقاتلها!
لقد استغرب كثيرون هجمة البغدادي المفاجئة على الدولتين السنيتين الكبيرتين بالمنطقة، والسكوت عن إيران؛ بل إنّ كلامه على المملكة، يشبه الكلام الإيراني شبهًا كبيرًا. أما بالنسبة لتركيا؛ فإنّ الأميركيين والروس والإيرانيين ومنذ عام 2014 يتهمون تركيا بمخامرة «داعش»، والتسهيل لعناصره وجرحاه بالمرور ذهابًا وإيابًا. وهو الأمر الذي دفع الروس عندما كانوا مختلفين مع تركيا، للقول إن داعشًا صناعة تركية. بينما أقبل الأميركيون على دعم الأكراد في سوريا لمقاتلة «داعش» بدلاً من الاستعانة بتركيا. ولا يزال الخلاف بين الطرفين قائمًا بعد التدخل التركي المتأخر فيما بين جرابلس والباب.. ومنبج. ولقد عاد الأميركيون أخيرًا فآثروا الأكراد بشرف محاصرة مدينة الرقة واقتحامها، وهذا سببٌ جديدٌ للخلاف التركي مع الولايات المتحدة وحلفائها!
قال لي أستاذ ألماني مختص بشؤون الشرق الأوسط على أثر سماعه البغدادي: «أنتم في محنةٍ بالفعل، فالولايات المتحدة تعتبر المملكة إسلاميةً أكثر من اللازم، و(داعش) يعتبرها إسلاميةً أقل من اللازم. والولايات المتحدة تعتبر تركيا أقل التزاما بمقاتلة (داعش)، والبغدادي يعتبرها العدو الرئيسي لـ(داعش) قبل إيران!».
لقد تناسل «داعش» عن «القاعدة» عبر تطوراتٍ متعرجة ومعقَّدة. وهو، مثل «القاعدة»، انشقاقٌ بداخل الإسلام. وقد قلتُ مرارًا في الدراسات والمقالات الصحافية إنّ الانشقاق إنما ينعكف على أصله الذي انشقّ عنه، ويرمي لإزالته والحلول محلَّه. وهذا يصح في الدين كما صحَّ في الحركات الحزبية والآيديولوجية. فعندما اختلف الصينيون مع السوفيات في أواخر الستينات، أقبلوا على التآمر مع الولايات المتحدة ضد أولئك التحريفيين! كان ماو تسي تونغ يتحدث عن أميركا الإمبريالية باعتبارها نمرًا من ورق، فلمّا اختلف مع الروس على مناطق النفوذ والموارد والمصالح الواقعة بين الطرفين أو بجوارهما؛ صار الروسي هو العدو الرئيسي، وصار الصراع على من يقود الحركة الشيوعية العالمية، إلى حدّ إقبال الصين على دعم ألبانيا الشيوعية المتشددة في وجه التحريفيين الروس!
وبحسب توماس هيغهامر؛ فإنّ بن لادن والظواهري كانا مختلفين في إيثار مجاهدة العدو البعيد أم العدو القريب. ويعتقد هيغهامر أنّ بن لادن هو الذي أخّر مواجهة العدو القريب. لكننا لو تأملنا ما بعد عام 2001، بل وما قبله، لوجدنا أنّ الأمر كان متوازيًا أو مختلطًا. وقد سمعتُ وقرأتُ لـ«القاعدة الأولى» وللزرقاوي ولمفتي «داعش»، وعلى مدى عشر سنوات، كلامًا يقول إن مجاهدة المرتدّين أولى من مجاهدة الكفار والفجار!
نحن مختلفون مع «داعش» حول ثوابت الإسلام، ومختلفون معه بشأن التعامل مع الناس، ومختلفون معه بشأن المصالح والأولويات. فـ«داعش» خرج على ديننا، وكفّر سائر الناس، ومضى لقتلهم وقتالهم. وكنا نسخر من دعاة «حزب التحرير» عندما يسألنا أحد عوامهم: أي الفروض أوجَب؛ الصلاة أم إقامة الخلافة؟! فإذا بـ«داعش» يجعل من «الخلافة» ركنًا من أركان الدين! وكنا نأخذ على الإيرانيين إنشاء التنظيمات الطائفية القاتلة؛ فإذا بـ«داعش» ينشئُ تنظيمًا لا همَّ له غير تقليد الإيرانيين والمتأيرنين في قتلنا وتهجيرنا. ثم ما المصلحة أو المصالح الضرورية للأمة والدين من وراء إقامة سلطةٍ مسخ في المناطق السنية المغلوبة على أمرها في سوريا والعراق، بحيث تصبح هدفًا ليس للأسديين والمالكيين والإيرانيين والأفغان فقط؛ بل وللأميركان والروس والفرنسيين والبريطانيين؟! سمعتُ معلقيْن على إحدى الفضائيات يتجادلان فيمن هجَّر وقتل أكثر من السنة بالعراق؛ «داعش» أم الموالك والإيرانيون والمتأيرنون. وظلا يتضاربان بالأرقام إلى أن ذكر أحدهما سوريا، فانقلب الملفّ لصالح «داعش»، لأن الأسد والإيرانيين والروس قتلوا نصف مليون، وهجّروا اثني عشر مليونًا!
أما الأتراك، فإنهم حاولوا طويلاً ألا يصطدموا بـ«داعش»، وأخذ ذلك عليهم كثيرون، ليس من الدوليين فقط؛ بل ومن العرب والمسلمين. لكنّ داعشًا عندما جرى التضييق عليه على الحدود، انصرف للتفجير في تركيا، وتراجع بسرعة أمام الأكراد بحيث صاروا هم و«داعش» على الحدود التركية، واستعجلوا في إقامة الكيان الكردي، وهو كابوس تركيا الأكثر اسودادًا. ولذلك تدخلت تركيا أخيرًا ضد «داعش» وضد الأكراد، ولولا الإذن الروسي (في مقابل ماذا؟!) لما جرؤت تركيا على التدخل رغم المعارضة الأميركية (!). فكيف تصبح تركيا العدو الرئيسي لـ«داعش»، الذي ينسحب من المناطق التي يهاجمها الأكراد بدعمٍ من طيران التحالف؟! ولو أنّ تركيا تدخلت قبل ثلاثة أعوام كما انتوت، لما ظهر «داعش» ولا ساد الأكراد، ولا نجحت إدارة أوباما في لعبة القط والفأر مع إيران وفي سوريا والعراق!
إنّ الذي أزعمه أنّ مشكلتنا نحن العرب مع «داعش» تتناول الدين والدولة. بينما مشكلة الأتراك معه إنما تتعلق بآيين الدولة، وبالسياسات الاستراتيجية بالمنطقة، ومن ضمنها التنافُس مع إيران. وقد كانت «القاعدة» واضحةً، واليوم «داعش»، في أنّ أعداءهم الرئيسيين هم المملكة والعرب بعامة؛ لكنهم تأخروا حتى اعتبروا تركيا ضمن الأعداء الرئيسيين. وقد كان منطقيًا أن يتلاقى العرب والترك تلاقيًا استراتيجيًا منذ عشر سنوات على الأقل. لكنّ إردوغان آثر صداقة بشار الأسد وخامنئي منذ عام 2004. وعندما راقب حركات الاضطراب العربي عام 2011، راهن على الإخوان المسلمين، وما تحالف مع الخليجيين، إلاّ قطر. وها هم الإيرانيون، وها هم الداعشيون، يعتبرون المملكة وتركيا عدوين لدودين. وهكذا، فإنّ الداعشيين والإيرانيين كادوا يتوحدون في تحديد أعدائهم، لولا أنّ الإيرانيين لا يبحثون عن أصدقاء وحلفاء؛ بل عن عملاء ومرتزقة يستخدمونهم. وقد فعلوا ذلك مع «القاعدة» طويلاً، وها هم يفعلون الشيء نفسه مع «داعش». وقد قال زعيم حركة «النجباء» الشيعية المتأيرنة إنهم يريدون «الثأر» من الموصل وغيرها. وقد مكّنهم «داعش» من ذلك بإنهاك تلك المناطق التي جاء لإنقاذها من الموالك والمماليك الإيرانيين، وها هم الإيرانيون وميليشياتهم يستخدمون الأميركيين في ضرب «داعش»، ويأتون بعدهم للقتل والتهجير بعد أن انتهى توظيفه. ثم ها هو «داعش» يكشف عن أعدائه الحقيقيين: المملكة وتركيا، لأن معهما شرعية الدين، وشرعية الدولة، أما شرعية «داعش» فإنها شرعية قطع الرؤوس وبقر البطون والإحراق، واستعباد النساء واستحياء الأطفال. لقد استجار بكم البعض هربًا من الاستنزاف، فعرضتموهم للقتل والتهجير، وها هم يكادون يتعرضون للإبادة بسبب انصرافكم عن الدفاع عنهم إلى مقاتلة السعودية وتركيا:
المستجير بعمرٍو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنارِ
التعليقات