هدى الحسيني

 كثير من الأميركيين، ولأسباب كثيرة، كانوا مشمئزين من مقولة: «السياسة كما جرت العادة»، وأظهروا ذلك عن طريق التصويت لدونالد ترامب أو عدم التصويت إطلاقًا. بعد «البريكست» في المملكة المتحدة، وفوز ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، انتهت الفترة الطويلة والمجحفة المؤيدة للعولمة التي تحكم بها سياسيون تقليديون أغفلوا تنامي معارضة المهمشين، ويمكن القول اليوم إن التأييد للعولمة، أو الرفض لها، صار بدل اليسار مقابل اليمين في العالم. لقد بدأنا فصلاً جديدًا، لكن اللوم لا يقع على الديمقراطية، بل على فشل المؤسسات الحاكمة التي انفصلت بعيدًا عن الواقع، ولم تدرك غضب الشعب.
بالنسبة إلينا، قال الرئيس الأميركي المنتخَب إن لديه خطة طموحة لوقف توسع تنظيم داعش، واحتواء الإسلام الراديكالي: «يجب أن يكون هذا أهم أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وكذلك سياسة العالم، وهذا يتطلب اللجوء إلى القوة العسكرية، إنما أيضًا مواجهة عقائدية كمواجهتنا الطويلة أثناء الحرب الباردة، لهذا سنعمل معًا، وعن كثب، مع حلفائنا في العالم الإسلامي الذي يتعرض هو الآخر لخطر عنف الإسلام الراديكالي».
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان أول المهنئين لترامب. علاقة مصر الحالية مع الولايات المتحدة صعبة، وكذلك حال كثير من الدول العربية، إذ كانت إدارة باراك أوباما تركز على انتقاد هذه الدول، ولا تعترف بالجهود التي تبذلها لمكافحة الإرهاب.
قد يكون الرئيس السيسي ارتاح لفوز ترامب، لكن ما يريده من واشنطن دعمًا اقتصاديًا ضخمًا، وسبق لترامب أن قال إنه يعارض المساعدات الاقتصادية لأي دولة خارجية. هو أشار إلى استعداده لتقديم الدعم المالي «حيث يجب ذلك»، وذكر الأكراد «الذين بحاجة، كي يكونوا مجهزين لقتال (داعش)»، لكن إذا اكتفى ترامب بدعم معنوي لمصر، فهناك خطر اهتزاز الاستقرار فيها، إذا ما استمر اقتصادها في التدهور.
بالنسبة إلى سوريا، اقترح ترامب أن تقاتل روسيا «داعش»، وقد يطرب الرئيس السوري بشار الأسد لهذا الاقتراح، لكن إذا سمح ترامب لروسيا بأن تفعل ما تريد في سوريا، فهذا يعني السماح لها بتقوية وجودها في الشرق الأوسط، مع كل ما في ذلك من تبعات.
أكثر المترقبين لسياسة الرئيس الأميركي المنتَخَب هي إيران، رغم كل عنجهية التصريحات، ستبدأ إدارة ترامب في التهديد باللجوء إلى القوة، وتفرض على إيران الخيار بين عقوبات صارمة، أو عمل عسكري، أو العودة إلى طاولة المفاوضات.
يوم الجمعة الماضي، وأثناء وجوده في براغ، قال محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إن بلاده تطبق الشقَّ الخاص بها من الاتفاق النووي، وأَسِف لأن الإدارة الأميركية الحالية لم تفعل ذلك.
الاتفاق يلزم إيران بالحد من قدرتها على تخصيب اليورانيوم وتخزينه والقبول بالمفتشين الدوليين. الأسبوع الماضي، انتقدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران لانتهاكها الاتفاق، بحيث أنتجت 130 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب.
خلال حملته الانتخابية وصف ترامب الاتفاق بـ«الكارثة»، وقال إن الأولوية عنده العمل على تفكيكه، متهمًا إيران بخرقه. بعد فوزه، قال أحد مستشاريه للشؤون الخارجية، إن ترامب سيعيد النظر في الاتفاق، ويرسله إلى الكونغرس ليطالب الإيرانيين ببعض التغييرات.
السؤال هو: هل يستطيع رئيس الولايات المتحدة التراجع عن اتفاق بمفرده؟! فالاتفاق النووي لم يُناقَش فقط بين أميركا وإيران، وإن كانت إدارة أوباما هي الرائدة، بل ناقشته الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن (بما فيها أميركا) بالإضافة إلى ألمانيا، ثم صادق عليه مجلس الأمن. لهذا على ترامب أن يذهب بعد الكونغرس إلى مجلس الأمن الدولي ليرى إن كان باستطاعته إقناع الأعضاء الآخرين بالتوافق على التغييرات التي يراها. هنا يأتي دور جون بولتون السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، على زمن الرئيس جورج دبليو بوش، الذي لا يرى تبريرًا لكل الأمم المتحدة وأدوارها.
من ناحية أخرى، يستطيع الرئيس فرض عقوبات أميركية يمكن لها أن تطيح بالاتفاق، والمعروف أن الولايات المتحدة هي الأقوى في النظام العالمي، وهي الأهم عندما يتعلق الأمر بالعقوبات. ثم إن القيود الأقوى التي ستواجهه في تطبيق نظرته تعود إلى عدم استعداده، وعدم استعداد الحزب الجمهوري لخطوة كهذه. يمكنهم القول إنهم يريدون تمزيق الاتفاق، وتستطيع أميركا الخروج منه بفرض عقوبات أحادية، لكن أوروبا لن توافق، ولن تفرض عقوبات جديدة. الصين أيضًا لن توافق، وبالتالي سيحمّل الكل ترامب مسؤولية تدمير الاتفاق، وخلال شهر أو شهرين سيكون أمام خيارين؛ إما قصف إيران أو عدم قصفها. فهل يريد إشعال حرب في بداية عهده؟
أعضاء في مجلس الشيوخ، وبينهم بوب كروكر (جمهوري من تنيسي وأحد المرشحين لمنصب وزير الخارجية) ينتقدون بشدة الاتفاق، ويريدون التفاوض مجددًا بشأنه، أو التخلي عنه واللجوء إلى القوة. الآن أمامهم الفرصة، إنما لا فكرة واضحة لديهم عما يجب عمله، وستكشف لنا الأيام كيف سيتعاملون معه، قد تكون لديهم مفاجأة، لأنهم يرون أنه كافأ إيران فعمدت إلى سجن أميركيين من أصل إيراني، وزادت من عدوانيتها وتدخلها في سوريا والعراق واليمن. وإدارة أوباما تريد من ترامب احترام الاتفاق والالتزامات الأميركية، تمامًا كما طلبت إيران التي تشعر بأنها قد تكون الخاسر الأكبر، ولأن السياسة الأميركية المواتية الآن لها، يمكن أن تنقلب رأسًا على عقب في الأشهر المقبلة.
المهم أنه إذا بقي الاتفاق، حتى إلى وقت محدد، يجب التفكير بجدية عما سيليه، كوضع استراتيجية تحد من اندفاع إيران إقليميًا، وهذا يتطلب موارد عسكرية، وإرادة سياسية، وموقفًا حازمًا. ولن ينفع إيران تهليلها بأنها وقّعت على مناورات عسكرية مشتركة مع الصين، يوم الاثنين الماضي، لأنه إذا كانت هناك دولة كبرى تريد استقرار الشرق الأوسط، فإنها الصين.
وقبل أن يصوغ ترامب سياسته تجاه إيران، يجب معرفة ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه إقليميًا. هل تريد الاحتواء أم الردع، خصوصًا مع وجود اللاعب الروسي على المسرح الإقليمي؟! الإيرانيون متداخلون جدًا مع الروس في سوريا. وعاد الحديث عن احتمال عودة روسيا إلى استخدام قاعدة همدان الجوية لعملياتها في سوريا.
من الواضح أن ترامب يريد تخفيف التوتر مع روسيا. كيف سيُترجم ذلك.. هل بإعطائها اليد العليا في سوريا، أو في كيفية معاملته إيران؟! هذا ليس معروفًا حتى الآن. لكن بناء على ما نشرته وسائل الإعلام الإيرانية، فإن النظام الإيراني يخشى من أن تفرض إدارة ترامب وبقوة تطبيق الاتفاق، ثم إن النظام الإيراني قلق لأن بعض الفوائد الاقتصادية التي كان يأمل بها مع الصفقة، لن تؤتي ثمارها. وعلى سبيل المثال، فإن إدارة ترامب قد لا توافق على بيع طائرات «بوينغ» لإيران.
المهم التأكد من أن تهديد إيران للمصالح الأميركية ولحلفاء أميركا في الشرق الأوسط سيتم احتواؤه مع وقف مغامراتها الإرهابية في الدول المجاورة. الأسبوع الماضي، قال ديفيد فريدمان كبير مستشاري ترامب، إن إدارة ترامب ستعود للتعاون مع الأطراف العالمية بطريقة تسعى لإعادة الضغط على إيران، لأن إيران نووية بعد 9 سنوات غير مقبولة. قد تبدو الـ9 سنوات فترة طويلة لكنها تمر في غمضة عين.
هناك عوامل كثيرة تعمل على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، من بينها النظام الإيراني. صحيح أن نظرة الرئيس المنتخَب إلى العالم ليست جيوسياسية بقدر ما هي اقتصادية، ولهذا فهو ليس مهتمًا بالشرق الأوسط كثيرًا، لكن يبقى الشرق الأوسط مهمًا من ناحية النفط، والممرات، ثم إن شركات ترامب نفسها عملت في الخليج، هو يعتقد أن كل شيء قابل للتفاوض، وسيأتي الوقت الذي يشعر فيه بأن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط يؤثر على المصالح الاقتصادية والأمنية الأميركية.
وهنا يجب تحذيره: إن رجل الأعمال ترامب غير معتاد على البيروقراطية، لكن الرئيس ترامب سيكون تحديه الأكبر البيروقراطية، إن كان في أميركا أو في الشرق الأوسط!