إميل أمين

ما دلالات مشاركة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية في أعمال القمة الخليجية؟ وهل المشاركة تعني أن دول الاتحاد تكاد تلعب على متناقضات السياسة الدولية؟ أم أن المشاركة تعني أولاً وقبل كل شيء إدراكًا سياسيًا ناضجًا لحقائق الواقع، إن لم نقل ردات فعل لبراغماتية سياسية مستنيرة؟
يبدو العالم برمته، ومنطقة الخليج خصوصًا، اليوم أمام غطرسة القوة الأميركية من ناحية، التي تمثل فهم واشنطن للعالم عبر اللغة الخشنة، وعلى الجانب الآخر، تبقى أوروبا وبريطانيا في المقدمة كحاملة لأضابير الشرق الأوسط التاريخية وأحاجي الإنسانية، ولذلك تبقى بريطانيا العقل الغربي المدرك لأبجديات المنطقة ومعضلاتها بأكثر من قدرة واشنطن ذات العضلات المستعرضة عبر حاملات الطائرات.
تجيء زيارة السيدة ماي في وقت «قيم وحساس» للبريطانيين، بنفس قدره أيضًا لأهل الخليج، فبريطانيا اليوم أمام حالتين تاريخيتين تستدعيان منها قراءة مغايرة لسياستها الخارجية؛ الأولى تتصل بخروجها من دائرة الاتحاد الأوروبي، مع تقدير الخسائر التي ستصيبها اقتصاديًا جراء ذلك الفعل، وحتمية البحث عن شركاء جدد فاعلين.
والحالة الأخرى هي العلاقات البريطانية - الأميركية، فلا يظن أحد أن تيريزا ماي قد استأذنت باراك أوباما في مشاركتها الأخيرة، وما من محلل سياسي محقق أو مدقق يمكن له أن يستشرف في الأيام المقبلة علاقة بين داوننغ ستريت والبيت الأبيض، كتلك التي ربطت بين مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي.
ولعل الشراكة البريطانية وإن بحثت عن مصالح اقتصادية وتجارية وعلاقات متشابكة ومتجددة لها مع العالم العربي، فإن ما يجمعها مع سكان الخليج أكثر خطورة ويمضي في مواجهة معضلة عصرية كبرى، ونعني مواجهة الإرهاب الأسود بنوع خاص، ولذلك أشارت ماي إلى أنها ستعلن قريبًا عن تعيين ثلاثة خبراء بريطانيين متخصصين في أمن المعلومات، ليتم إرسالهم إلى منطقة الخليج بغية التعاون مع السلطات المحلية.
عبر كلماتها خلال أعمال القمة، ذكرتنا السيدة ماي بالقيمة المضافة للمملكة العربية السعودية في مواجهة الإرهاب الدولي، وكيف أن التنسيق الأمني المشترك قد أنقذ حياة المئات وربما الآلاف من الأوروبيين غداة اكتشاف قنبلة في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، بمطار إيست ميدلاندز بمدينة نوتنغهام شرق بريطانيا، على متن رحلة متجهة إلى الولايات المتحدة، وكان ذلك نتيجة مباشرة للمعلومات التي زودت بها السلطات السعودية أجهزة الأمن في القارة الأوروبية وفي بريطانيا، كرأس حربة أمنية وبداية لأوروبا.
تدرك السيدة ماي أن منطقة الخليج تواجه طموحات غير شرعية، وأطماعًا غير قانونية لإيران، ولهذا كانت قاطعة وواضحة في كلماتها... «أمن الخليج هو أمننا»، وهي في الواقع عبارة واقعية مجردة من أي مبالغة لغوية، فلا يزال نفط الخليج وغازه يمثل سائل الحياة والحضارة لبقاع وأصقاع كثيرة حول العالم وأوروبا في مركزها، كما أن التهديدات الإيرانية لحركة الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز باتت علنية بغير خجل أو وجل.
تبقى المصالح عاملاً مشتركًا في حياة الأمم والشعوب نعم، غير أن الإدراك والمفهوم الأوروبي للتعاون المشترك يختلف عن نظيره الأميركي أو الروسي، فأوروبا تعرف تمامًا مفاتيح الصحراء العربية منذ بواكيرها، وأخلاقيات الفرسان من العرب، وتتعاطى على أساس من تاريخ وجغرافيا، مد وجزر، عطاء وأخذ، تصالح وخصام، إنما جميعها في إطار إنساني له محددات ومعايير معروفة ومقبولة من كل الأطراف.
الشراكة الخليجية - الأوروبية الجديدة أو بمعنى أدق المتفاعلة من جديد بإيجابية، هي ولا شك في جزء منها نتاج أخطاء وخطايا السياسات الأوروبية في المنطقة، فإحجام باراك أوباما، وقيادته من وراء الكواليس، أصاب الشرق الأوسط في القلب، وها هو يرحل وكثير من الجراح الثخينة لا تزال مفتوحة في الجسد العربي، ولهذا قد تكون المقاربات الأوروبية - العربية، الخليجية اليوم، أكثر عقلانية وواقعية تجاه العالم المتغير، حيث موسكو وواشنطن، وها هي بكين، تسعى جميعها لقسمة غرماء ما بعد يالطا 1945.
اللحظة ولا شك تاريخية، والفوز فيها لمن يدرك إلى أين يمضي العالم، وكيف يمضي، وعبر أي الدروب يتوجب على الدول والتجمعات الإقليمية أن تسلك، إنه عالم «البريكست»، «وما بعد ترامب»، «وأحلام وأوهام بوتين».. أي عالم جديد مثير ذلك؟