&ذكاء مخلص الخالدي
عندما وصل سعر النفط قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، إلى مستويات تاريخية، اعتبر بعض المعنيين بالشؤون المالية والنقدية أن تسعير النفط العربي بالدولار هو الذي يعطي الأخير أهميته. فبعدما تركت الولايات المتحدة قاعدة الذهب في 1971، أصبح النفط يمثل غطاءً للدولار مكان الذهب. ورأوا أن هناك اتفاقاً سرياً بين الولايات المتحدة والدول العربية النفطية للإبقاء على تسعير النفط بالدولار للحفاظ على الأخير كعملة الاحتياط الدولي. وإذا ما فكرت الدول العربية بإعادة تسعير النفط بعملة أخرى، فإن إعادة التسعير ستعرض الدولار إلى زلزال يفقده أهميته هذه.
وعلى رغم الارتفاع الذي سجله سعر برميل النفط في تلك الفترة، بلغت قيمة صادرات النفط العربي 3.5 في المئة فقط من حجم التجارة العالمية المقومة بالدولار (أرقام 2007). فإذا كانت كل معاملات التجارة الدولية مسعرة بالدولار، ماذا يضرّه إذا سُعِّر 3.5 في المئة منها بعملة أخرى؟
والآن، بعدما انخفضت أسعار النفط العالمية إلى ما دون 30 دولاراً وتراجع الطلب عليه بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي ووصول الولايات المتحدة إلى درجة الاكتفاء الذاتي من النفط تقريباً، يفترض أن تنخفض قيمة الدولار تجاه العملات المهمة الأخرى بسبب انخفاض قيمة غطائها كما يرى البعض.
ولكن الوقائع تظهر عكس ذلك. فسعر الدولار تجاه اليورو ارتفع من معدل 0.7322 في كانون الثاني (يناير) إلى 0.8224 في كانون الأول (ديسمبر) 2014، أي بزيادة 10.2 في المئة. وواصل الدولار ارتفاعه تجاه اليورو في 2015 من معدل 0.8304 إلى 0.9152 بين مطلع العام ونهايته، أي بنسبة زيادة 12.3 في المئة. أما تجاه الجنيه الإسترليني، فقد ارتفع سعر الدولار من 0.6038 في كانون الثاني 2014 إلى 0.6443 في كانون الأول من العام ذاته أي بنسبة زيادة 6.7 في المئة. وفي 2015 واصل الدولار ارتفاعه تجاه الاسترليني ليبلغ 0.6751 نهاية السنة مقابل 0.6148 في مطلعها، أي بنسبة زيادة 9.8 في المئة.
قبل أزمة اليورو وفي أوج انتعاش الاقتصاد الصيني، عندما عانى الدولار من انخفاضات استمرت لفترة غير قصيرة، تعالت أصوات للمطالبة بإحلال اليورو أو اليوان الصيني محل الدولار كعملة احتياط دولي، وكانت تلك المطالبات في حينها غير واقعية. فاليورو كان عملة وليدة لم يمر على وضعها في التداول أكثر من بضع سنوات، ولم تتعرض بعد لأي اختبارات تثبت قدرتها على الصعود
وتجاوز الأزمات بحيث يمكن اعتمادها كعملة الاحتياط الدولي. ويمكن مناقشة اليوان بطريقة مختلفة، ولكنها تفضي إلى النتائج ذاتها. فالاقتصاد الصيني على رغم القفزات التي سجلها خصوصاً في مجالي الإنتاج والتصدير لم يعتبر اقتصاداً صناعياً متطوراً يرتكز على قاعدة صناعية ومؤسساتية متطورة.
هناك عوامل اقتصادية وغير اقتصادية عدة تخلق الثقة بعملة ما، إضافة إلى صمودها أمام أحداث مناوئة لا يستهان بها على فترة غير قصيرة من الزمن. فالجنيه الإسترليني عندما كان عملة الاحتياط الدولي والعملة المستعملة في تسوية معاملات التجارة الدولية، كان بسبب الأهمية الصناعية والتجارية والسياسية والعسكرية للإمبراطورية البريطانية في حينها. وبقيت هذه الأهمية حتى بعد خروج بريطانيا من قاعدة الذهب في 1931. ولم يعطِ النفط العربي عندما بدأ إنتاجه بكميات تجارية وتصديره، أهمية خاصة للجنيه الإسترليني، ولم يكن السبب الذي جعله عملة الاحتياط الدولي، إنما جاء تسعيره به أسوة ببقية معاملات التجارة الدولية. ثم انحسرت الإمبراطورية البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وخسرت الكثير من مستعمراتها وتضرر اقتصادها من الحرب وفقدت ميزتها الصناعية السببية بعد ظهور دول صناعية منافسة لها.
والأهم من ذلك، برزت الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وسياسية ومالية وعسكرية في العالم خصوصاً بعد دورها في إنهاء الحرب العالمية الثانية لمصلحة الحلفاء بسبب تفوقها في مجال الطيران العسكري، ثم تبنيها «مشروع مارشال» لإعمار أوروبا الذي زاد أهمية دورها الاقتصادي وأهمية الدولار في التجارة الدولية، عندما كانت مساعدات المشروع المقدمة إلى أوروبا تعود مرة أخرى إلى الولايات المتحدة بشكل طلب على سلع وخدمات أميركية.
وهكذا عندما كانت كل الظروف مهيأة لانحسار بريطانيا عن المسرح الدولي وعملتها كعملة احتياط، كانت الظروف ملائمة لبروز الولايات المتحدة لتأخذ مكانها، وليحل الدولار محل الإسترليني. وحصل ذلك والنفط كان لا يزال مسعراً بالجنيه الإسترليني. وفي 1971 فكت الولايات المتحدة ارتباطها بالذهب، ولكن أهمية الدولار في تسوية معاملات التجارة الدولية استمرت بالتنامي مستندة إلى تنامي أهمية الولايات المتحدة كأكبر قوة اقتصادية وسياسية ومالية وعسكرية في العالم.
التعليقات